لا خيط «حقيقي» يكشف مصير جمال خاشقجي. التصريحات التركية والسعودية، على حد سواء، زادت من غموض مصير الصحافي السعودي المختفي منذ الثلاثاء الماضي، عقب دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول.وحدها بعض التسريبات الإعلامية أفضت إلى «الكشف» عن مقتل الرجل. تسريبات معظمها جاء من الجانب التركي، بينما رئيس البلاد رجب طيب أردوغان قال إن لديه توقعات «إيجابية» في شأن مصير خاشقجي، مؤكداً أن نتائج التحقيق ستعلن إلى العالم «مهما كانت».
لا جديد في حديث أردوغان أمس. رد الفعل التركي يفسّر على نحوين، الأول أن السلطات بالفعل ليست لديها معلومات كافية لإدانة الرياض، وأن لا معطيات أكيدة لديها للتحدث بناءً عليها في سياق واضح وكامل أمام الرأي العام العالمي، والثاني، أن أنقرة، ارتأت إعطاء مزيد من الوقت للسعوديين، للخروج بسيناريو مشترك ينهي القضية بحفظ ماء الوجه.
يفسر الاحتمال الأول، تضارب المعلومات في تركيا، التي تُبقي على أسئلة مفتوحة من دون إجابة، لليوم السابع على التوالي، إذ تتعارض توقعات أردوغان «الإيجابية»، مع تأكيدات مستشاره، ياسين أقطاي، بأن «خاشقجي قُتل في القنصلية السعودية في إسطنبول»، بناءً على معلومات الشرطة التركية، التي تفيد بأن مجموعة من 15 سعودياً، «بينهم مسؤولون» و«عناصر الشرطة السعودية»، وصلت إسطنبول بطائرتين، يوم الثلاثاء الماضي، وتوجهت إلى القنصلية، عندما كان خاشقجي موجوداً في داخلها، قبل أن يعودوا في اليوم نفسه، إلى البلد الذي قدموا منه، في حين، تكشف تسجيلات الكاميرات الخارجية، أن خاشقجي لم يغادر أبداً الممثلية الديبلوماسية، التي كان قد زارها بغرض الحصول على ورقة تفيد بأنه طلّق زوجته السابقة، حتى يتمكن من الزواج من خطيبته التركية، خديجة آزرو، التي ذهبت معه إلى القنصلية وانتظرته في الخارج، لكنها لم تره يغادر منها.
الرد السعودي، اقتصر في المقابل، على نفي مقتل خاشقجي داخل القنصلية، أو وجوده في الرياض، إذ لم ترُد على اتهامات الشرطة التركية، في شأن ضلوع مجموعة السعوديين، بل اكتفوا بالإعلان عن وصول «وفد أمني» آخر، أول من أمس، إلى إسطنبول، مكون من «محققين سعوديين، وصلوا بناءً على طلب الجانب السعودي، وموافقة الجانب التركي... للمشاركة في التحقيقات»، بحسب ما أعلن مصدر مسؤول في القنصلية، لكن الوفد المعلن عنه، ليس هو نفسه الذي تتحدث عنه الشرطة التركية، لأن الأخير غادر يوم اختفاء خاشقجي.

الحلقة المفقودة
بعد سبعة أيام على اختفاء الرجل، تبدو الكرة في ملعب أنقرة التي عليها أن تكشف ملابسات القضية، لأن الغموض الذي يكتنف القضية، يشي بعجز الاستخبارات التركية عن كشف مصير رجل اختفى في مكان محدد، إذ إن دخوله موثق بشهادة خطيبته، وبتسجيلات الكاميرات الخارجية التي لم تسجل خروجه، بحسب ما يقول المسؤولون الأتراك، في حين تأكد أخيراً عدم وجوده داخلها، بعدما فتح القنصل السعودي، محمد العتيبي، أول من أمس، الأبواب أمام صحافيي وكالة «رويترز»، للتجول في أرجاء القنصلية المكونة من 6 طوابق، بعد أربعة أيام على اختفاء خاشقجي داخلها.
تبقى الحلقة المفقودة، بناءً على ما سبق، في ما حصل داخل القنصلية خلال الأيام الأربعة، وكيفية خروجه منها، خصوصاً أن القنصل السعودي، محمد العتيبي، قال إن «القنصلية مزودة بكاميرات، لكنها لم تسجل أي لقطات لخاشقجي»، ومن ثم من غير الممكن استخراج صور لدخوله أو مغادرته للقنصلية، فيما اعتبر أقطاي، أن ذلك الزعم «ليس صادقاً»، فلو كانت هذه التسجيلات في متناول يد السلطات التركية، لكان أمر كشف مصير خاشقجي يسيراً.
سيطرت اتهامات متبادلة على المشهد في محاولة للتشويش على مسؤولية الرياض


الحلقة المفقودة هذه، تجعل من احتمال مقتله داخل القنصلية، في عملية مدبرة، أكثر ترجيحاً، وهو ما تعتقد به الشرطة التركية، لكن في ظل إصرار السعودية على نفي مقتله داخل القنصلية، تبقى الرياض «بريئة»، قانونياً، حتى تثبت أنقرة إدانتها بالدليل القاطع.
وبعيداً عما حصل داخل القنصلية، ثمة سؤال آخر يفرض نفسه بإلحاح على السلطات التركية: كيف خرج من القنصلية؟ سواء كان حياً أو مقتولاً. وكيف مرّ عبر المطار، إذا كان قد نُقل إلى السعودية؟ الروايات التي تجيب على هذه التساؤلات، في انتظار انتهاء التحقيقات التركية التي ستشمل فحص تسجيلات كاميرات المراقبة، وحركة الطائرات كما قال أردوغان، أمس. وهنا، ثمة من يطرح سيناريوات متعددة، بعضها صادمة، آخرها تحدثت عن أن سيارة ذات زجاج داكن، خرجت من المدخل الخلفي للقنصلية، قد يكون نقل خاشقجي فيها عقب اختطافه، إلى مكان مجهول، فيما نقلت صحيفة «نيويورك تايمز»، وموقع «ميدل إيست آي»، عن مسؤولين أتراك وعرب، أن «خاشقجي قُتل وشوّهت جثته»، بل نقل الأخير، عن مسؤول في الشرطة التركية، أنه «عُذّب قبل أن يُقتل وتقطع جثته»، مضيفاً أنه من المرجّح أنه «جرى تصوير كل شيء من أجل تأكيد أن المهمة قد تمّت، وقد نُقل الشريط المصوّر إلى خارج البلاد» بحسب «ميدل إيست آي». لكن ما سبق، يبقى ادعاء، أكد رئيس «جمعية بيت الإعلاميين العرب في تركيا»، توران كشلاكجي، أمس، أنه «يجري التحقق منها».

«سرب تويتر» يكشف «المؤامرة»!
وفي انتظار التحقيقات، سيطرت على الساحة الإعلامية اتهامات متبادلة، طاولت قطر، في محاولة سعودية إلى أخذ القضية إلى مكان أبعد، تشويشاً على ردود الفعل الدولية، والاتهامات للرياض بالوقوف وراء اغتيال خاشقجي. قرر ولي العهد، محمد بن سلمان، تحريك أضلع آلته الإعلامية الثلاثة: الديبلوماسيون ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وعبر تغريدة للقائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان، وليد البخاري، في «تويتر»، تحت وسم «مسرحية جمال خاشقجي»، اعتبرت الرياض أن اغتيال خاشقجي «مؤامرة ومكيدة استخباراتية دبرت بإحكام بغرض النيل من سمعة السعودية والإساءة إليها». وعلى نحو مشابه انخرطت وسائل الإعلام السعودية شبه الرسمية، إذ وصفت صحيفة «عكاظ»، التي تعمل وفق تعليمات الديوان الملكي، الاتهامات للرياض بالوقوف وراء اختفائه، بـ«هجمة إعلامية شرسة بلغات عدة، تستهدف تشويه صورة المملكة»، معتبرة أن ثمة «تنسيقاً مسبقاً» لدى «الإعلام المعادي، الذي يحمل الملامح الإخوانية والقطرية». وفي تقرير آخر، أمس، ذهبت الصحيفة إلى إحراج تركيا أمنياً، تحت عنوان «هل إسطنبول آمنة للسعوديين؟»، مبادرة إلى الإجابة، بأنه «مع لغز اختفاء المواطن جمال خاشقجي، المثير للجدل، تزيد مخاوف مواطنين سعوديين، من ما آل إليه مستوى الأمن التركي في الحفاظ على سلامة زائري أهم المدن السياحية في البلاد»، فضلاً عن «حوادث الاعتداء على السياح وارتفاع حالات النشل والتحايل» كما تقول.
الحملة الإعلامية الرسمية رافقتها تغريدات لصحافيين ونشطاء، تولوا الكشف عن «المؤامرة التركية والقطرية». فبحسب المحامي والقانوني عبدالرحمن اللاحم (كان نايف قد سجنه ومنعه من السفر حينما كان وزيراً للداخلية، وازداد نشاطه منذ الانقلاب على محمد بن نايف)، قرر «النظامان القطري والتركي تصفيته» (لخاشقجي)، بعد أن «انتهت صلاحيته»، في حين كان مدير مكتب «العربية» في الرياض سابقاً، خالد المطرفي، قد لمح، بعد يومين فقط من اختفاء خاشقجي، إلى مقتله في تركيا، بالقول إن «اختفاء جمال خاشقجي... يعيد إلى الأذهان، السعودي محمد المفرح، الذي توفي في تركيا في ظروف غامضة (وكان يتزعم ما يعرف بحزب الأمة الإخواني)، عندما بدأ يُلمح أنه سيعود للمملكة، كتلميحات خاشقجي الأخيرة!». أما الهستيريا «التويترية» السعودية، فتجسدت في مقطع مصور بثه في «تويتر»، الإعلامي السعودي، عبدالله البندر، وضع خلاله عملية اغتيال خاشقجي، في إطار سلسلة عمليات اغتيال «نفذها تنظيم الحمدين» بحسب زعمه، لرؤساء سابقين، كمعمر القذافي وعلي عبدالله صالح، من بينهم «والدهم خليفة بن حمد آل ثاني»، الذي «وضعوه في إقامة جبرية إلى أن مات»، فيما اتهم الأتراك بسلسلة أخرى من الاغتيالات، بدأت بالسفير الروسي أندريه كارلوف، ورئيس نقابة المحامين التركية، طاهر ألجي، والإعلامي السوري زاهر الشرقاط.
تغريدات ما باتوا يوصفون بـ«المطبلين» في المملكة، جاءت مصحوبة بآلاف التغريدات لـ«الذباب المبرمج» في «تويتر»، مروجين إلى أن ولي العهد، محمد بن سلمان، دحض ترجيحات المسؤولين الأتراك، بأن خاشقجي قد قتل داخل القنصلية، ناشرين صوراً لمقتطفات من مقابلته الأخيرة مع وكالة «بلومبيرغ»، علماً أن ابن سلمان، بدا في إجاباته غير ملم بتصريحات مسؤوليه (أو غير مهتم بالقضية)، بقوله إنه «على حد معرفتي، إنه (جمال) دخل القنصلية، وخرج منها بعد دقائق معدودة، أو ساعة، لست متأكداً».