لو أريد إسقاط الفتاوى المتقادمة في السعودية في شأن قيادة المرأة للسيارة على الواقع اليوم، لكان ولي العهد، محمد بن سلمان، هو المقصود بحديث أجاب به أحد ألمع تلامذة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، مفتي عام المملكة منذ عام 1992 وحتى 1999، الشيخ عبد العزيز بن باز، سؤالاً بهذا الشأن، حيث أورد: «دعاةٌ على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها». وفق المنطق نفسه، وطبقاً لفتوى المفتي العام الحالي، عبد العزيز آل الشيخ، قبيل أشهر قليلة فقط من قرار ابن سلمان كسر الحظر المفروض على قيادة النساء، يكون الأمير الشاب قد فتح على السعوديين «باب الشرور».
وصفت «هيئة كبار العلماء» قرار ابن سلمان بشأن «القيادة» بأنه «مصلحة راجحة» (أ ف ب )

لكن «هيئة كبار العلماء»، التي استمات رجالها في ما مضى في الدفاع عن رفضهم تشريع هذا الحق، سرعان ما بادرت إلى الترحيب بدخول قرار ابن سلمان حيز التنفيذ، معتبرة إياه «مصلحة راجحة». تقلّب يجلي بوضوح كيف يجري العمل على تطويع المؤسسة الدينية السعودية، بشقيها الرئيسين (هيئة كبار العلماء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، في وقت يروّج فيه نجل الملك لكون معركته هي مع «تيار الصحوة الذي غزا البلاد أواخر السبعينات» عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران.
ليس الغرض من هذه المزاعم، فقط، تبرئة السعودية من لوثة الفكر المتشدد، وإلصاق الأخيرة بإيران. وليس الغرض منها أيضاً، حصراً، التأصيل لحرب شاملة ضد التيارات «الإخوانية» داخل المملكة وخارجها، إنما كذلك التغطية على حرب من نوع آخر يخوضها ابن سلمان ضد التيار الديني الأقوى في بلاده، والذي يعود إليه الفضل الأكبر في قيام الدولة السعودية، والمقصود به الوهابية. يقول الأمير الشاب، في مقابلة مع مجلة «تايم» الأميركية في نيسان/ أبريل الماضي، إنه «لا وجود لشيء بهذا الاسم (الوهابية). إنها مجرد أفكار روج لها المتطرفون بعد عام 1979، فقط من أجل جعل السعوديين جزءاً من شيء لا ينتمون إليه». لن يكون ابن سلمان أول من سينكر وجود الوهابية من آل سعود؛ إذ سبقه إلى ذلك الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود نفسه بقوله إن «تسميتنا بالوهابيين خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض»، ومن بعده الملك فهد الذي شدد على أن «الوهابية ليست مذهباً»، وأن «الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يقم إلا بالدعوة لتطهير العقيدة من البدع والضلالات».
الفارق بين ابن سلمان وأسلافه أن الأخيرين لم يكونوا في معرض التبرؤ من الوهابية بقدر ما كانوا يحاولون تنزيهها مما اتُهمت به، في حين أن الأمير الشاب، الذي سبق أن جارى جده وعمه بإبدائه استهجانه من الربط بين الوهابية والإرهاب («فورين أفيرز»، كانون الثاني/ يناير 2017)، سرعان ما أوقعته زلاته في الانكشاف، عندما أجاب سؤالاً لمجلة «واشنطن بوست» (آذار/ مارس 2018) ورد فيه مصطلح الوهابية بالقول إن «جذور الاستثمار السعودي في المدارس والمساجد تعود إلى فترة الحرب الباردة، عندما طالب الحلفاء السعودية باستخدام مواردها لمنع الاتحاد السوفياتي من تحقيق نفوذ في الدول الإسلامية». يقرّ ابن سلمان، بطريقة أو بأخرى، من خلال هذا التصريح، بأن جزءاً رئيساً مما يقوم به اليوم من تغييرات داخل المملكة إنما هو من مقتضيات «الانقلاب» المطلوب أميركياً، بعدما أضحى التكفير بالنسبة إلى الولايات المتحدة بضاعة كاسدة.
الحملة على «الإخوان» و«السروريين» تهيّئ الأرضية لنشوء حركات تمرد


لطالما كانت العلاقة بين آل سعود والوهابية محكومة بحسابات سياسية متصلة بالداخل والخارج. وما السخاء الذي سُجّل إبان عهد الملك فهد في الإنفاق على نشر الوهابية حول العالم - بتواطؤ غربي - ضمن «استراتيجية مواجهة المد الثوري الإيراني»، وفي المقابل التحفظ الذي أبداه الملك عبد الله على تلك الاستراتيجية، خصوصاً عقب أحداث 11 أيلول 2001، حيث بدأ اتخاذ خطوات لمحاصرة المؤسسة الدينية، إلا دليلان واضحان على ذلك الترابط. لكن ما يقدم عليه ابن سلمان، راهناً، يتجاوز حدود كل ما انتهجه أسلافه في لعبهم على المتناقضات التي أسس لها الشيخ والأمير (محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود). صحيح أن ملوك آل سعود لم يتورعوا، في ما مضى، عن البطش بالتيارات «الإخوانية» مثلما فعل عبد العزيز بمقاتلي «إخوان من أطاع الله» في أواخر عشرينات القرن الماضي (إثر استغلاله إياهم في حروب التوحيد)، أو كما فعل خالد بن عبد العزيز (بتوجيه من فهد، ولي العهد حينها) بحركة جهيمان العتيبي في أواخر سبعينات القرن الماضي، إلا أن ذلك لم يكن إلا بعدما قاد هؤلاء عمليات تمرد مسلحة ضد النظام السعودي، بينما يشنّ ولي العهد الحالي حملة تطهير ابتدائية ضد التيارَين «السروري» و«الإخواني»، شاملاً بها وجوههما البارزة التي كانت تشكّل جزءاً من «نخبة» المشائخ في السعودية (سلمان العودة، عائض القرني...). حملة من شأنها تغذية الخصومة الموجودة أصلاً بين السلفية الجهادية والسلفية الوهابية، وتهيئة الأرضية لنشوء حركات تمرد لا تصبّ عملية «التغريب» الجارية في المملكة إلا في مصلحة مضاعفة تهديدها.
من جهة أخرى، وها هنا الخطر الأكبر الذي يواجهه ابن سلمان (خلافاً لكل ما يدعيه في شأن منشأ التطرف في السعودية)، والذي بات يبدي في مواجهته حرصاً أكبر مما كان يظهره أوائل تبوئه سدة ولاية العهد، يحاول الأمير الشاب ترويض المؤسسة الوهابية بما يلائم رؤيته لـ«السعودية الجديدة». وهي محاولات ليست الأولى من نوعها في تاريخ المملكة، إذ سبق لأسلافه (وخصوصاً منهم عبد العزيز وفهد) أن مارسوا هذه اللعبة، لكنهم جميعاً كانوا يحرصون على حفظ مساحة نفوذ لا يستهان بها لتلك المؤسسة لما تلعبه من دور في حماية شرعية النظام. أما اليوم، فإن ولي العهد يشعر أنه مكبّل بمعادلة جده وأعمامه، ولذا فهو يريد الانعتاق منها، إلا أنه لا يزال يخطو في هذا الطريق بحذر، على رغم ما يقابله به مشائخ الوهابية من مرونة تجلت مجدداً في مواقفهم إزاء سريان قرار السماح للمرأة بالقيادة. ومع ذلك، يمكن إيراد جملة معطيات تبيّن ذلك الحذر: في نيسان/ أبريل الماضي، زار ابن سلمان بنفسه الشيخ صالح الفوزان (أحد أبرز الوجوه المتشددة في هيئة كبار العلماء) قائلاً له: «أنت والد لي»، في ما قُرئ استرضاءً لـ«الهيئة» إثر القرارات الماسّة بهيبتها. بعدها بأسابيع فقط، شنّت السلطات السعودية حملة اعتقالات ضد ناشطات نسويات تحسباً لمحاولتهن تصوير «القيادة» إنجازاً لهن. وفي الـ19 من الشهر الجاري، أصدر الملك سلمان قراراً بإقالة رئيس مجلس إدارة «هيئة الترفيه»، أحمد الخطيب، على خليفة ظهور لاعبات روسيات في الرياض بـ«لباس غير لائق». وقبل يومين، قررت «الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع» إحالة الإعلامية شيرين الرفاعي إلى التحقيق بعد ظهورها بـ«ملابس غير محتشمة».
كلها أمثلة تظهر حجم التحدي الذي يواجهه الأمير الشاب، وفي الوقت نفسه تضع المؤسسة الدينية وامتداداتها الاجتماعية أمام أسئلة عدة لعلّ أهمها: ماذا لو قرر ابن سلمان اقتحام مناطق لا تزال محفوظة (إلى حد كبير) للوهابيين من قبيل النظام التعليمي، أو الثقافة الدينية، أو الإفتاء في أمور حساسة كنظام الولاية؟ شيئاً فشيئاً، تقترب موسى «التغريب» و«الترفيه» من أساسيات العقيدة الوهابية، راسِمة علامات استفهام كبرى حول ما ستؤول إليه العلاقة بين «الحليفَين»، خصوصاً أن استمرار المساكنة يزداد صعوبة كلما خطا ولي العهد خطوة إضافية في طريق الانفتاح واللبرلة بنموذجها السعودي.