المنامة | كان الجميع يترقب تطبيق قانون القضاء العسكري الجديد في البحرين، متوقعاً حدوث انقلاب عسكري أو هجوم عنيف ضد منشآت الجيش، أو في حالات أقل الكشف عن خلايا «داعشية»! لم يتأخر الوقت كثيراً، في 9 أيار/ مايو 2017، وقبل عملية اقتحام الدراز التي استهدف فيها الزعيم الديني البارز عيسى قاسم بأسبوعين، قالت الأنباء الرسمية حينئذ إن القضاء العسكري «ينظر للمرة الأولى في قضية ثلاثة أشخاص، أحدهم ذو صفة عسكرية واثنان آخران غير عسكريين، متهمين بارتكاب جرائم لغرض إرهابي». تداولت وسائل التواصل الاجتماعي أخبار انعقاد المحكمة العسكرية، وهي المرة الأولى التي تُشكَّل فيها محاكم عسكرية منذ تطبيق الأحكام العرفية في آذار/ مارس 2011. الفارق هنا أن هذه المحكمة العسكرية كانت بحاجة إلى تعديل دستوري قدمه الملك بشكل مستعجل لمجلس النواب للمصادقة عليه يسمح للقضاء العسكري بمحاكمة المدنيين، وقد وافق مجلسا النواب والشورى على إمضاء التعديل بسرعة قياسية برهنت على أنه كان بناءً على طلب شخصي من الملك والمشير، ليشكّل الغطاء القانوني لمحاكمة المتهمين في ما سيُعرف لاحقاً بـ «قضية اغتيال المشير».في 22 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبعد عام من حادثة اعتقال شخصين من بلدة الدراز، هما علوي حسين وفاضل عباس، صرّح القضاء العسكري بأن «الأجهزة الأمنية المختصة بمكافحة الإرهاب في قوة دفاع البحرين تمكنت من خلال ما ورد إليها من معلومات وما قامت به من أعمال البحث والتحري والمراقبة، من القبض على خلية إرهابية استهدفت ارتكاب عدد من الجرائم الإرهابية ضد قوة دفاع البحرين»، وأن النيابة العامة العسكرية أحالت المتهمين إلى المحكمة العسكرية. وأشارت أوراق القضية إلى جهاز مكافحة الإرهاب التابع للجيش ودوره في كشف القضية، إذ ادعت النيابة أن أحداث القضية تعود إلى عام 2016، حيث وردت معلومات إلى الجهاز عن وجود «خلية إرهابية» تخطط لعمل كبير، وأن تحريات مكثفة أُجريت كشفت أن الخلية يتم تمويلها من عناصر مقيمة في إيران والعراق.
تقول رواية الجيش إن عباس قال لجندي في الجيش، يدعى «مبارك»، إن هناك مهمة معروضة عليه، وسيحصل على مبلغ مالي كبير مقابل تنفيذها، وطُلب منه الالتقاء بأشخاص معينين في الدراز للتفاهم حولها. في الدراز، حيث عاصمة المعارضة ومقر عيسى قاسم (كان علوي حسين يرافق قاسم)، وبحسب الرواية، التقى مبارك بشخص قال إن اسمه «محمد هادي». هادي قال له: «لدينا لك مهمة، سنعطيك مقابل تنفيذها الآن ألف دينار مقدماً، ثم سنعطيك 100 ألف دينار بعد تنفيذها بنجاح. مهمّتك هي أن تقتل المشير»! والمقصود بـ «المشير»، هو قائد الجيش البحريني المشير خليفة بن أحمد آل خليفة.
يرى معارِضون أن الغرض من «مسرحية العفو» ابتزاز أهالي المعتقلين


وبحسب رواية أجهزة الجيش (الذي يشكّل الخصم والحكم في القضية)، فإن خطة اغتيال المشير التي أُبلغ بها مبارك، هي أن يترصّد الأخير للأول حين يأتي ويتفقد الوحدة العسكرية التي يعمل فيها، بناء على أن المشير دأب على تفقّد الوحدات العسكرية من وقت إلى آخر. ادعت النيابة أيضاً أن المتهمين طلبوا من مبارك تدريبهم عسكرياً، وأنه شرع بتدريبهم على الأسلحة والقفز من السور، وكان ذلك في مقبرة الدراز (ما يثير السخرية هو أن سور مقبرة الدراز لا يتجاوز ارتفاعه نصف متر!).
بدأت جلسات المحاكمة في هذه القضية، وكانت وتيرتها متسارعة: 5 جلسات في أقل من شهر، كلّها سرّية بأمر النيابة التي منعت تغطية الإعلام. من الواضح أن سرية الجلسات كانت لمنع تداول الأحداث والمجريات، ومن أجل تسريع إصدار الأحكام التي يُراد لها أن تكون حلقة من حلقات الابتزاز السياسي. في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2017، أصدرت المحكمة العسكرية حكمها، وذكرت وكالة الأنباء الرسمية حينها أن المحكمة العسكرية الكبرى أصدرت حكماً بالإعدام بحق ستة متهمين، وأسقطت عنهم الجنسية بعد إدانتهم بتهم من بينها «تشكيل خلية إرهابية والشروع في اغتيال صاحب المعالي القائد العام لقوة الدفاع». وبعد النظر في القضية من قبل محكمة الاستئناف العسكرية العليا، أصدرت بتاريخ 21 شباط/ فبراير ‏2018 حكمها في عدد من الطعون المقدمة في القضية نفسها، حيث قضت بتعديل الحكم المستأنف بحق اثنين من المحكوم عليهم، وذلك بالسجن خمس سنوات، بدلاً من سبع سنوات، فيما قضت وبإجماع الآراء بتأييد بقية الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكمة العسكرية الكبرى بحق المحكوم عليهم حضورياً وعددهم ستة، منهم أربعة محكوم عليهم بعقوبة الإعدام والسجن 15 سنة وإسقاط جنسيتهم البحرينية، واثنان محكوم عليهما بعقوبة السجن لمدة سبع سنوات وإسقاط الجنسية البحرينية، وكذلك تأييد كافة الأحكام الصادرة بالبراءة بحق خمسة من المحكوم عليهم، فيما قررت محكمة الاستئناف العسكرية العليا وقف الاستئنافات المقدمة من قبل النيابة العسكرية بحق المحكوم عليهم بالإدانة غيابياً، وعددهم خمسة، وذلك لكون الطعن بالمعارضة ما زال قائماً. وحيث أن الحكم قد صدر من محكمة التمييز العسكرية، فقد أصبح باتاً ونهائياً، إلا أن الأحكام الصادرة بالإعدام بموجب قانون القضاء العسكري لا يمكن تنفيذها إلا بعد تصديق ملك البلاد.

المشهد الأخير وكلمة السر
قبيل انعقاد جلسة محكمة التمييز العسكرية، والتي كانت مخصصة للنظر في قضية اغتيال المشير، تلقى أهالي المحكومين بالإعدام في الساعة 9:30 اتصالاً يطلب منهم الحضور للمحكمة العسكرية في اليوم التالي لمقابلة شخص هناك. الاتصال «المريب» لم يعط أي مؤشرات إيجابية. كانت القلوب مشدودة وعلى غير دقاتها الطبيعية، فهذه الجلسة هي المحطة الأخيرة التي قد تحمل الأمل في تخليص ستة مواطنين من منصة الإعدام العسكري برعاية الملك والمشير. إنها الجلسة التي يكون الخصم فيها هو القاضي وصاحب الكلمة النهائية.
عقدت المحكمة العسكرية جلستها المشؤومة، ولم تستمر سوى دقائق معدودة، ألقى فيها القاضي حكم المحكمة، والذي أيد حكم الإعدام، وأمر بإخراج المتهمين من القاعة. انتشر خبر حكم محكمة التمييز، وضجت وسائل التواصل بتناقل الخبر مضافاً إليه خبراً يفيد بطلب حضور واحد من أهالي المحكومين بالإعدام في اليوم التالي إلى النيابة العسكرية. حبس الجميع الأنفاس، واستعيد مشهد إعدام الشبان الثلاثة في ملف قتل الضابط الإماراتي طارق الشحي. في خضم ذلك كله، كان ثمة كلمة سر مخفية، لم يلتفت إليها أحد وسط المشهد القاتم، فوكالة الأنباء الرسمية التي دأبت على إعلان البيانات الرسمية للمحكمة العسكرية فور النطق بها لعلمها المسبق بها، لم تنشر أي خبر عن حكم محكمة التمييز بل لم تشر لانعقادها أصلاً.
في ساعات الصباح الأولى من اليوم الثاني من المحاكمة، توجّه أهالي المحكومين بالإعدام إلى النيابة العسكرية بحسب الاتصال والاتفاق المسبق معهم. ذهبوا وهم يتهيأون لتسلم ملابس أولادهم وشهادة وفاتهم إعداماً بالرصاص، كما فُعل بمن سبقهم. فور وصولهم هناك أقلّتهم سيارة أخرى إلى مبنى مجاور، وأُخبروا أنهم سيقابلون المشير خليفة بن أحمد. التفت إليهم الأخير وأخبرهم أنه فور إعلان حكم محكمة التمييز ذهب بأوراق القضية إلى الملك للتصديق على حكم الإعدام، إلا أن الملك سأله عن إمكانية تنازله عن حقه الخاص في القضية، فرد عليه المشير إنه «رهن إشارته»، وهنا ألغى الملك حكم الإعدام، وأبقى على الأحكام المؤبدة بحقهم. وطلب المشير من الأهالي الانتظار في القاعة ريثما ينهي رئيس النيابة العسكرية يوسف فليفل أوراق العفو الملكي.
انتظر الأهالي طويلاً، ولم يأت رئيس النيابة، بل حضرت وسائل الإعلام المحلية ومراسلو الصحف وطُلب منهم التصريح والتعليق على خبر إلغاء حكم الإعدام. على الفور، نقلت وكالة أنباء البحرين الرسمية خبر العفو الملكي، ونقلت المقابلات مع الأهالي وهم يشكرون المشير والملك مرغمين. «كلمة السر» التقطها من تصفه المعارضة البحرينية بـ «الطابور الخامس»، للدفع بالخبر إلى واجهة الإعلام بغرض تحقيق هدفين، الأول: تعظيم مكانة الملك والمشير وإسباغ طابع «الحنان» عليهما. والثانية: الاستثمار في الترويج لسياسة الاستجداء والترجي وطلب العفو والمكرمات.
«الطابور الخامس» نفذ التعليمات بحذافيرها، وأضاف إليها، وفق أوساط المعارضة، مهمة اجتهد في تخريجها وهي الطعن في قوى المعارضة وتزييف الوقائع لبناء واجهة سياسية جديدة. هذا الاجتهاد قاد اللعبة إلى نهايتها، وإلى أن تُكشف كلمة السر، وحقيقة ما جرى لم يكن عفواً ولا مكرمة، ولكن مشهداً مقرراً ضمن المشهد الأخير في مسرحية اغتيال المشير. أما الغرض النهائي من كل ما تقدم، كما يراه هؤلاء المعارضون، فهو ابتزاز الأهالي وتحويل المعتقلين إلى رهائن يفاوض بهم الملك والمشير الرأي العام المحلي والعالمي.



بدايات السيناريو
أواخر أيلول/ سبتمبر 2016، اختفى تباعاً اثنان من أبناء بلدة الدراز، معقل المعارضة، هما فاضل عباس وعلوي حسين، في الوقت الذي تسرّبت فيه أخبار عن تعرضهما للتعذيب الشديد في جهاز الأمن الوطني. كان الاعتقاد السائد أن ثمة مخططاً يقوده جهاز الأمن الوطني لتلفيق قضية أمنية لرجل الدين البارز عيسى قاسم، وأن اعتقال حسين، المعروف عنه قربه الشديد من قاسم، هو بداية خيوط البحث الجنائي ليجبر الأول على الاعتراف بتورط قاسم في جرائم إرهابية تبرر حكم سحب جنسية الرجل وفرض الحصار على منزله بالدراز. توسلات المنظمات الدولية للكشف عن مصير حسين ورفاقه باءت بالفشل، وأصبح الجميع يدرك أن النظام هو من يقف خلف اختفاء حسين وعباس. تردّدت معلومات غير مؤكّدة عن أن أجهزة الأمن أرادت انتزاع اعتراف من علوي حسين ضد شخصيات محددة لتوريطهم في قضية ما. في الأثناء، ازداد عدد حالات الاختفاء القسري التي يعلن عنها، ولم يفهم أحد شيئاً، حتى تم ضمّهم جميعاً إلى القضية نفسها: «اغتيال المشير».
(الأخبار)


القضاء العسكري
العام الماضي، ومن دون سابق إنذار، أفادت الصحف المحلية بتعديل دستوري ينص على أن يستبدل بند من المادة 105 من الدستور، بالنص الآتي: «ينظم القانون القضاء العسكري ويبيّن اختصاصاته»، بدلاً من النص الذي يقصر اختصاص المحاكم العسكرية على جرائم العسكريين حصراً. قام قائد الجيش المشير خليفة بن أحمد آل خليفة، وقتها، بزيارة لمجلس النواب، في شباط/ فبراير 2017، برفقة حرسه الذين دخلوا المجلس بأسلحتهم. وقال للنواب إن التعديل الدستوري سيعقبه تعديل على قانون القضاء العسكري. بعد أيام، وافق مجلس النواب على التعديل الدستوري، وصادق عليه الملك حمد بن خليفة آل خليفة، بدوره، في 3 نيسان/ أبريل 2017. في اليوم التالي لصدور التعديل رسمياً، وافق مجلس الوزراء على مشروع لتعديل قانون القضاء العسكري الصادر عام 2002. مُرّر المشروع في اليوم العاشر لإحالته من الحكومة، ليضمن الملك والمشير الغطاء القانوني والدستوري لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية من دون ضجيج يذكر.
(الأخبار)