شهدت الساعات القليلة الماضية توقيع عشرات الاتفاقيات بين الجانبين السعودي والأميركي، خلال زيارة محمد بن سلمان المتواصلة إلى الولايات المتحدة. اتفاقيات تنبئ باندفاع الشركات الأميركية إلى نيل نصيبها من دولارات السعودية «الثرية جداً» على حد توصيف دونالد ترامب، بعدما كان الحديث منصبّاً على هواجسها إزاء سياسات ابن سلمان. لكن ذلك الاندفاع لا يلغي الشكوك المتزايدة في «واقعية» ما يتطلع ولي عهد المملكة إلى جنيه، من وراء الثمن الذي يُسلِّفه لواشنطن.يبدو أن زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى الولايات المتحدة، والتي ترافقت مع حملة علاقات عامة ضخمة تولّاها الإعلام الأميركي بنفسه على أن تُتوَّج بلقاء بين الأمير الشاب والمذيعة الشهيرة أوبرا وينفري، قد أسالت لعاب المستثمرين الأميركيين، وأَنْستهم إلى حين الهواجس التي ولّدتها «حملة التطهير السلمانية» في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. هذا ما أوحت به اللقاءات الأخيرة لابن سلمان في مدينة نيويورك، والتي تخلّلها توقيع اتفاقيات بعشرات مليارات الدولارات، أبرزها اتفاقية مع مجموعة «سوفت بنك» لإنشاء مشروع للطاقة الشمسية في المملكة. وبينما يُنتظر إبرام صفقات أخرى في مجال الترفيه في مدينة لوس أنجلوس، تظهر الشركات الأميركية مفتوحة الشهية لدخول القطاعات السعودية التي شرّعت أبوابها «رؤية 2030». لكن، وعلى الرغم من الاحتفاء السعودي المبالَغ فيه بتلك «الإنجازات»، يظلّ التشكيك قائماً في قابليتها للتحقق على النحو الذي يتطلع إليه ابن سلمان، وفي المدى الذي يأمله، في ظل التحديات الخارجية والداخلية الماثلة أمامه، والتعامل الأميركي معه على أساس: ادفع سلفاً ومن ثم نتناقش في النتائج.
وأعلن الرئيس التنفيذي لمجموعة «سوفت بنك»، ماسايوشي سون، أن صندوق «رؤية» التابع لشركته سيستثمر بنحو 200 مليار دولار في مشروع لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية في السعودية. وتوقّع سون، في حديث إلى الصحافيين، أن يبلغ ناتج المشروع 200 غيغاوات بحلول 2030، بما يعادل 50% من إجماليّ الكهرباء المنتَجة بالطاقة الشمسية حالياً على مستوى العالم، والبالغة قرابة 400 غيغاوات. ويُعدّ هذا المشروع، «الأكبر قاطبة» على حدّ تعبير سون، جزءاً من خطة السعودية لتقليص اعتمادها على النفط، الذي تحرق منه راهناً ما بين 300 ألف و800 ألف برميل يومياً، من أجل توليد الكهرباء. وعلى الرغم من تفاؤل محلّلي الطاقة العالميين بأن «رهان ابن سلمان الضخم على المصادر المتجددة سيسمح بتخصيص الكثير من إنتاج النفط المحلي للتصدير، وربما توفير موارد الغاز المحلية أيضاً»، إلا أن ثمة علامات استفهام حول الجدول الزمني المفترض لتلك الخطة. إذ، وبحسب محللين، فإن الاتفاق الأخير مع «سوفت بنك» «قد يعطي مشروع بناء قدرة إنتاجية في المملكة من الطاقة الشمسية دفعة البداية التي يحتاجها»، لكن «إنتاج 200 غيغاوات بحلول 2030 مسألة أخرى»، علماً أن «هناك بطءاً شديداً في التقدم» في المشروع المذكور، ما يوحي بأن طموح ابن سلمان يتجاوز حدود الواقع.
وجاء التوقيع على مذكرة التفاهم بين صندوق الاستثمارات العامة السعودية ومجموعة «سوفت بنك» تزامناً مع انعقاد «منتدى الرؤساء التنفيذيين السعودي - الأميركي» الذي بدأ أعماله في نيويورك مساء الثلاثاء، واستمرّ حتى صباح الأربعاء. وتخلّل المنتدى، الذي حضره ابن سلمان وعدد من وزرائه، التوقيعُ على 14 اتفاقية تجارية بأكثر من 10 مليارات دولار، بين شركة «أرامكو» السعودية و14 شركة أميركية. وبيّنت «أرامكو»، في بيان، أن الاتفاقيات تشمل «التنقيب والحفر البري والبحري، وشراء معدات تنقيب، وتقنية المعلومات وأمن المعلومات والخدمات الحسابية». وإلى جانب تلك الاتفاقيات، تم توقيع 22 مذكرة تفاهم أخرى، تجاوزت قيمتها جميعاً (مع اتفاقيات أرامكو) 20 مليار دولار، بحسب ما أعلنت السفارة السعودية في الولايات المتحدة.
لن يتوقف الأمر عند ذلك الحد. فمن المرتقب، وفق ما أكد رئيس مجلس إدارة الشركة السعودية للصناعات الدفاعية أحمد الخطيب، التوقيع على «مذكرات تفاهم أخرى مع شركات أميركية كبرى». مذكرات سيكون من أبرزها اتفاق غير ملزم، سيتمّ إبرامه في سياتل، مع شركة «بوينج» الأميركية المتخصصة في صناعة الطائرات، لتوفير الدعم والتدريب للأسطول الجوي السعودي. ومن المتوقع، كذلك، أن تشمل جولة ابن سلمان في الساحل الأميركي، والتي تبدأ الجمعة، الاجتماع بمسؤولين تنفيذيين ورجال أعمال في لوس أنجلوس، حيث ينتظر التوقيع على اتفاقيات في مجالَي السينما والفنادق، مواكَبةً لتطلّع ولي العهد السعودي إلى تحويل بلاده لمقصد سياحي رئيس في الشرق الأوسط.
هكذا إذاً، يتجاوز ابن سلمان، الذي تمثّلت آخر نشاطاته أمس في اجتماعه بمسؤولين تنفيذيين من أكثر من 40 شركة عالمية كبرى (تحدث ولي العهد خلال الاجتماع عن أهمية مشاريع «نيوم»، و«البحر الأحمر»، و«القدية»، في محاولة لتشجيع المسؤولين الأجانب على الاستثمار فيها)، «الإهانة» التي وجّهها إليه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مع بدء زيارته (ذكرت مصادر حضرت اجتماع البيت الأبيض، لاحقاً، أن ابن سلمان شعر بالإهانة فعلاً)، مثبّتاً حقيقة النظر إلى بلاده كـ«بقرة حلوب» ينتظر الجميع دورهم في حلبها. يحاول إعلام المملكة، ومسؤولوها أيضاً، التغطية على ذلك بالحديث عن «الشراكة الاستراتيجية» بين البلدين، ووقوف علاقتهما على «ميزان المصالح المشتركة» في الاقتصاد والتعاون العسكري، لكن كل الفعاليات التي شهدتها زيارة ابن سلمان، إلى الآن، تصبّ في الاتجاه «الاستغلالي» المتقدم، حتى بدا، للحظة ما، أن الرجل لم يتكبّد عناء التخلص من لوثة «اعتقالات نوفمبر»، بعدما تولّى الإعلام الأميركي بنفسه مواراة الحديث عنها، لصالح تلميع «إنجازات» «رجل الإصلاح» في المملكة. وها هنا تكمن خطورة المسار الذي يخطّه ولي العهد السعودي، إذ إن الثمن الذي يدفعه على أمل انبعاث «التحالف السعودي - الأميركي»، والذي تُقبل واشنطن على انتزاعه كحقّ مفترض لها، قد لا تقابله خطوات بالحجم المأمول به سعودياً، ناهيك عن المخاطر الداخلية المحدقة بـ«رؤية 2030».