حقّق التحالف السعودي ـ الإماراتي، نجاحاتٍ عسكرية في جنوب اليمن، لكن لا يمكن تثميرها، سياسياً، بالنسبة إلى الرياض وأبو ظبي؛ فالفراغ الناجم عن انسحاب الحوثيين والجيش، لم تملأه ـ ولا يمكن أن تملأه ـ سلطة الرئيس عبد ربه هادي وحلفائه، وإنما القوتان المتجذرتان في المحافظات الجنوبية: الحراك الجنوبي الذاهب نحو الانفصال ـ وبالمقابل، ترسيخ كيان شمالي حوثي معادٍ للسعودية ـ و«القاعدة» الذاهبة نحو إمارة تكفيرية إرهابية، لن تحوّلها إفادتها الميدانية من دعم التحالف السعودي، قوة سلام واستقرار للمملكة.
ومن هنا، يغدو إصرار التحالف على السيطرة على تعز (الشمالية) مفهوماً، لكنه باهظ الكلفة.
انتقال التحالف السعودي إلى الحرب البرية، لا يُقاس، من حيث الإنجاز، بالقدرة على إخراج الحوثيين من مناطق في الجنوب اليمني، بل بقدرة الحوثيين وحلفائهم على إدامة الحرب. ومن الواضح أنّ هذه القدرة متوافرة ومتنامية، بل إن المعارك البرية تتيح للحوثيين تلافي الشلل الدفاعي إزاء القصف الجوي البعيد المدى، ومزاولة الاشتباك الديناميكي مع الدروع والمشاة، في جغرافيا صديقة لمقاتلين معبّئين، وطنياً وعقائدياً.
الحرب البرية في اليمن، ستنجلي عن ورطة سعودية ـ إماراتية تتضاعف، يومياً، مع تزايد الخسائر في الآليات والأفراد، والاستنزاف العسكري والمالي والسياسي لتحالف الغزاة.
الأسوأ من الفشل، بالنسبة إلى السعودية، هو النجاح في فرض السيطرة على جنوب اليمن، بـ«حراكه» و«قاعدته»، وتحمُّل أعباء الانفصال، وتبعاته السياسية والاقتصادية والأمنية؛ بينما يتمدد الحوثيون في جنوب السعودية، المعروف أنه يتشكل من ثلاث محافظات يمنية الأصل، هي عسير ونجران وجيزان ـ التي بدأ الحوثيون باختراقها ـ ونقل ثقل المواجهات إليها.
اغتصب السعوديون هذه المحافظات، وضمّوها إلى المملكة، في عام 1934؛ ومذ ذاك، لم تعترف الحركة الوطنية اليمنية، بالأمر الواقع ذاك، بينما تعاملت الحكومات اليمنية معه، براغماتياً، من غير أن تجرؤ على الاعتراف بشرعية الاغتصاب السعودي لأرض يمنية، أو تجرؤ، بالعكس، على مطالبة السعوديين بها.
أولى وأكبر خسائر السعودية، الجوسياسية، في حربها على اليمن، تكمن في إعادة طرح قضية المحافظات اليمنية الثلاث المغتَصَبة، إلى الميدان، وإلى جدول الأعمال.
عسير ونجران وجيزان، هي جزء من جغرافيّة اليمن، وديموغرافيته وحضارته وثقافته. وهي تنتمي إلى الشبكات القبلية الشمالية نفسها، وتسير على المذهب الزيدي (والإسماعيلي)، ما يقرّبها من حركة أنصار الله.
بالمحصلة، إن المشهد الجيوسياسي، يتشكّل، اليوم، كالآتي: جنوب السعودية اليمني مقابل جنوب اليمن السعودي؛ على ذلك، إن ورطة الرياض، في حربها على اليمن، هي أكبر مما تتوقعه المملكة التي تشنّ الحرب على اليمنيين من دون أهداف واقعية محددة؛ فعودة هادي وحكومته، إلى صنعاء، باتت مستحيلة، وكسر شوكة الحوثيين والجيش، ليس وارداً في المدى المنظور.
بعد القصف الجوي والبحري، المكثّف والعنيف والمستمر، لآلاف الأهداف العسكرية والمدنية في اليمن، وبعد الإنزالات والمعارك البرية الشرسة، وسقوط آلاف الشهداء والجرحى في صفوف الجيش اليمني والحوثيين وجماهيرهم؛ لا نلاحظ، لدى هؤلاء المقاتلين الأشداء، ميلاً إلى الاستسلام، بل الإصرار على القتال، ولا يبدو أن إمكاناتهم العسكرية قد تضررت جدياً؛ بل ظهرت تلك الإمكانات بكامل فعاليتها الميدانية في تدمير الدبابات والمدرعات المعادية، وإسقاط مروحيات الأباتشي، وإطلاق الصواريخ البالستية، والاشتباك على أكثر من جبهة، في آن واحد.
ربما كان على السعودية أن تقوم، الآن، بإجراء حسابات واقعية عن حجم خسائرها المتوقع في الجنود والمعدات، وباحتمال فقدانها لثلاث محافظات، عسكرياً أو سياسياً أو، على الأقل، انخراطها في حالة من عدم الاستقرار والفوضى الأمنية. وفي الوقت نفسه، مواجهة عقابيل انفصال الجنوب، والمخاطر الناجمة عن دعم «القاعدة» وتسمينها.
يمكن حرب اليمن أن تستمر، لسنواتٍ طوالٍ، من دون حسم؛ فهل سيخسر اليمنيون، خلالها، أكثر مما خسروه حتى الآن؟ المملكة، بالمقابل، ستُستَنزَف، عسكرياً وسياسياً ومالياً.
لا نعرف ما الذي تحمّلته الخزينة السعودية في الأشهر الأولى من الحرب؛ لكن الحرب كانت، بالتأكيد، عاملاً رئيسياً للعجز المالي السعودي المرشّح للتفاقم، جراء اضطرار نظام الملك سلمان، إلى مضاعفة تقديم الرشى، داخلياً وخارجياً، والانخفاض المزمن في أسعار النفط، والتنافس مع شركات النفط الصخري، والعجز البنيوي في اقتصاد يعتمد، بنسبة 95 في المئة على الريع النفطي.
من دون حل سياسي متوازن، يكفل الاستقلال اليمني والاعتراف بالحوثيين كقوة رئيسية في حكم اليمن، ستستمر الحرب، بهذا الشكل أو بذاك، إلى ما لا نهاية؛ فمشكلة السعودية ليست في عدن، وإنما تقع على حدودها مباشرة، في صعدة، حيث الحصن الحوثي القادر على التمدد في الداخل السعودي.
المزيد من الحرب، يعني المزيد من الضعف السعودي الاستراتيجي، سواء في مواجهة ما تعتبره الرياض تنامياً غير مقبول للنفوذ الإيراني الإقليمي، أو في مواجهة الضغوط الأميركية لإعادة صياغة النظام السعودي، أو في مواجهة حلفاء الأمس: «القاعدة» و«داعش».