أثار مشهد الرئيس العراقي جلال الطالباني، وهو يضع يده على صدره، على الطريقة الأميركية، عند عزف النشيد الوطني الأميركي، ردود أفعال مختلفة لا تخلو من الحدّة على مستوى النخبة السياسية، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. بعض المعلّقين افترضوا أن تلك الحركة كانت عفوية، وذات طابع شخصي، القصد منها مجاملة «الضيوف»، غير أنّ كثيرين تساءلوا عن السبب الذي جعل الطالباني، الذي كان يقف وعلى يساره نائب الرئيس الأميركي جو بايدن والسفير الأميركي جيمس جيفري، وعلى يمينه رئيس الوزراء نوري المالكي، يقوم بتلك الحركة مع النشيد الوطني لدولة الاحتلال، لا مع النشيد الوطني لبلاده. آخرون علّلوا الحادثة بكبر سنِّ الرئيس وحالته الصحية، والبعض ذكَّر بالزيارة التي قام بها الطالباني لمقر إقامة السفير الأميركي قبل أشهر قليلة تلبيةً لمأدبة عشاء، وهي التي أثارت جدلاً واسعاً في حينها وعُدَّت غير مسبوقة ربما في موسوعات الدبلوماسية الحديثة.الاحتفالية التي أُقيمت يوم الخميس الماضي في مناسبة ما أطلقت عليه الحكومة العراقية «يوم الوفاء»، لوداع القوات الأميركية المحتلة رسمياً، في قصر «الفاو» داخل مجمع قاعدة «فيكتوري» غرب العاصمة العراقية، وهو أحد القصور الرئاسية الفخمة التي بُنيت بأمر من الرئيس السابق صدام حسين خلال فترة الحصار الدولي على العراق، تميّزت بالتكلُّف الواضح والتوتر الذي خلّفته الإجراءات الأمنية المشدّدة التي اتخذتها القوات الأميركية، وعمليات التفتيش الدقيقة والاستفزازية لـ«ضيوفها العراقيين»، وهو ما دفع بعض «الضيوف» كمحافظ بغداد صلاح عبد الرزاق إلى مغادرة القاعة اعتراضاً على طريقة تفتيش أصدقائه الأميركيين له، على ما يبدو.
وقد حضر بايدن الاحتفالية، وألقى كلمة باهتة غابت عنها العنجهية الأميركية المعهودة؛ فالخطيب لم يجد نصراً يترنّم به أمام جنوده وضباطه سوى أنهم تمكنوا من إنهاء هذه الحرب. وقال حرفياً: «بفضلكم، وبفضل وما قمتم به من عمل، نحن الآن قادرون على أن ننهي هذه الحرب». وكان أكثر فصاحة في ردّه على أحد الصحافيين، حين قال: «نحن لا نعلن الانتصار، لكن ما نعلنه هو أننا أتممنا ما خطّطت له الإدارة، وهو إنهاء حرب لم نبدأها، وبنحو مسؤول». غير أنّ بايدن لم يدع المناسبة تمرّ من دون أن يسجّل ما بدا أنه نصر على حلفائه في حكومة المحاصصة الطائفية، مذكراً إياهم بأن القصة لم تنتهِ تماماً بعد؛ لأنّ حكومته، على حدّ تعبيره، نجحت في وضع «أساس لشراكة استراتيجية طويلة الأمد بين بلدينا، رغم كل المصاعب، يمكن أن تكون مصدراً للاستقرار، لا لشعوبنا فحسب، بل للمنطقة وعلى مدى سنوات مقبلة». بدوره، ألقى المالكي كلمة في المناسبة حيّا فيها «يوم استعادة السيادة على كامل التراب»، لافتاً إلى أنّ «انسحاب القوات الأجنبية من جميع الأراضي العراقية وفق الجداول الزمنية المتفق عليها يُعدّ انتصاراً تاريخياً لخيار المفاوضات»، في غمزة لخيار المقاومة المسلحة التي أنزلت بالمحتلين هزائم عديدة وأجبرتهم، وباعتراف المحللين والمراقبين الأميركيين أنفسهم، على الانسحاب من دون تحقيق أي هدف أعلنوه أو لم يعلنوه لحربهم. وبخصوص اختيار الاسم الذي أطلق على يوم الاحتفالية، أي «يوم الوفاء»، سرّبت أوساط مقربة من الحكم أنّ المالكي نفسه هو صاحب الفكرة، وقد عنى به يوم وفاء المحتلين لعهدهم بانسحاب شامل نهاية العام، ووفاؤه هو للعراقيين بوعده بإتمام هذا الانسحاب كاملاً واستعادة السيادة. ومهما يكن التفسير الذي قيل ليوم الوفاء، فهو أكد غياب «الجلاء» فعلاً وقولاً. مراقبون ومحللون عراقيون وأجانب اتفقوا على أن المالكي لعب بأوراقه التفاوضية بذكاء، وأنه ضحى بأجزاء من شعبيته لتحقيق هدفه المركزي الذي شدد عليه في أكثر من مناسبة، وهو تحقيق «الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية» خلال عهده. لكن البعض الآخر أعرب عن خشيته من أن يكون الثمن السرّي الذي دفعه المالكي، لا يساوي هذا الانسحاب الأشبه بالمسرحية أو بالعرض العسكري. المالكي الذي كان يختار كلماته بعناية وحذر شديدين، لم يخصّص قوات الاحتلال بالتحيّة، ولم يصفها بالصديقة، بل كرّر وصفها بالقوات الأجنبية، واستذكر «بفخر التصدي البطولي الذي قامت به قواتنا المسلحة التي أحبطت المخطط المشؤوم للمنظمات الإرهابية». ومال رئيس الحكومة إلى المبالغات ومجاملة المحتلين على حساب آلام العراقيين في مواضع أخرى من كلمته، فجرّب إسماع الأميركيين ما يودون سماعه من قبيل «إن قواتنا الأمنية خاضت إلى جانب قوات التحالف كافة والقوات الأميركية خاصة، حرباً عالمية ضد الإرهاب كان العراق فيها نقطة النجاح». لكن هذا الإطراء لم يُشبع التعطش الأميركي لسماع المزيد كما يبدو، بدليل أنّ أوساط مقربة من قيادة تحالف المالكي أفادت بأن الأخير ربما أوكل مهمة شكر الأميركيين ووصْفهم بالأصدقاء إلى بعض المقربين منه، وهذا ما فعلته السيدة مريم الريس، المستشارة المهمة المقربة منه، عندما قالت على شاشة قناة «الحرة» الأميركية قبل أيام: «نشكر ونقر بالعرفان للجيش الأميركي الصديق وللرئيس جورج بوش الابن الذي لولاه لما استطاع أحد أن يحرر العراق من حزب البعث». كلام انهالت عليه ردود الأفعال الحادة التي بلغت مستوى التعريض والقدح بالريس من شخصيات وقوى عديدة، في مقدمتهم زعيم التيار الصدري شخصياً، مقتدى الصدر الذي طالب المستشارة «بالاعتذار للمجاهدين والوطنيين والشرفاء وكل الشهداء والجرحى والفقراء والثكلى والأسرى والمعتقلين». أما الطالباني، فكان أكثر سخاءً وابتهاجاً في كلمته التي تخلّلت الاحتفالية؛ إذ أشاد بـ«تضحيات الولايات المتحدة التي ستبقى صديقة للعراق، وهي التي أسهمت في وضع ركائز الدولة العراقية الجديدة».



عشرة آلاف و500 أميركي في 5 مواقع


كشفت وزارة الدفاع العراقية، أمس، أنّه «لم يبقَ من القوات الأميركية في العراق سوى 10 آلاف و500 جندي يشغلون 5 مواقع في البلاد» من دون تحديدها، بعدما وصل عديدها إلى ذروته مع ما يزيد على 160 ألف جندي في سنوات ما بعد الغزو. وأشارت الوزارة، في بيان، إلى أن هؤلاء الجنود يتهيّأون الآن للانسحاب من الأراضي العراقية خلال الأيام القليلة المقبلة قبل نهاية العام الجاري». في غضون ذلك، أعرب رئيس الحكومة نوري المالكي عن تفاؤله بقدرة قواته على الحفاظ على الأمن والاستقرار حتى من دون وجود القوات الأميركية، مؤكداً أنّ العراق سيخطّ سياساته المستقبلية وفقاً للمصالح العراقية الصرفة، «لا بحسب إملاءات إيران أو أي دولة أخرى». وفي إطار رفضه «استخدام العراق ساحةً للمعركة بين إيران وأعدائها»، أشار إلى أن بغداد ترفض «أن يستغلّها مَن لديه مشاكل مع إيران، مثلما لا نسمح لإيران باستخدامنا ضد خصومها». وعن توقعاته للوضع الأمني الذي سيسود في العراق بعد اكتمال الانسحاب الأميركي، أوضح المالكي أن هذا الانسحاب «سيخفّف من مستوى العنف؛ لأن الوجود الأميركي سبب رئيسي للهجمات».
(أ ب، يو بي آي)