دمشق | يشبه «نينار» في دمشق القديمة الـ«بارومتر» في بيروت: شيوعي (سابق) «يعق» بلاك لايبل في الزاوية. الحوار نفسه يتنقل من طاولة إلى أخرى. بضعة رجال أعمال جدد في عالم السيغار. أجانب روس يملأون فراغ الألمان والفرنسيين وغيرهم ممن غادروا البلد بناءً على طلب سفاراتهم. صوت جوزف صقر يغني، فيما يأخذ الحوار العقيم حول من يتحمل مسؤولية إيصال البلاد إلى ما بلغته من مدى: ساعة، ساعتين وربما أكثر.
النظام ـــــ بفساده العصيّ على الإصلاح وعماه الديكتاتوريّ ـــــ هو المسؤول؟ أم المعارضة بعدم تحديدها أهدافاً منطقية يمكن تحقيقها دون أخذ البلد إلى الحرب الأهلية، وملاقاتها النظام في رفض الحوار والحلول السلمية؟ في الحالتين، صقر يغني فيما الأمثلة والتحليلات تتطاير هنا وهناك. وخلاصة الشباب: «تنحَّ وإلا». «تنحوا وإلا». «قوي بجيشك واستخباراتك؟ أنا قوي بالناتو والإعلام». نبيذ؟ ثمة نبيذ سوري رخيص يدعى نابوليون، وآخر غال يدعى سعادة. «تنحّ وإلا». «تنحوا وإلا». كأس، كأسأن، كؤوس. «تنحّ وإلا». «تنحوا وإلا». حفلة؟ حفلات جنون. لا أحد يسمع أو يفهم أو يرى. أصابع، عيون، ألسنة. سَكّرْ أذنيك وانظر إليهم: «تنحَّ وإلا». «تنحوا وإلا». كأنهم لم يموتوا ولم يسمعوا عمّن مات. صوت صقر لا يزال يغني. في الـ«بارومتر» يرقصون، هنا يتقاتلون.
دمشق الجديدة، بيروت القديمة. سينتهي النقاش العقيم (دائماً) حول المسألة السابقة بين رفيقين يساريين منذ أكثر من أربعين عاماً باتهام الناشطة المعارضة لزميلها في المعارضة ــــ الذي يحمّل فريقه السياسي بعض المسؤولية عما وصلت إليه البلاد ــــ بأنه «يتفلسف» نتيجة «جذوره العلوية». وسيعيد هو سبب تصلّبها ورفضها التزحزح عن موقفها إلى «جذورها السنّية». سوريا الجديدة تسألك عن طائفتك وعن موقفك السياسي في لبنان، وبحسب إجابتك تبني حوارها معك. بناءً على موقفيهما من «الثورة» المفترضة، لن يخجل «الرفيق» من وصف النائب خالد ضاهر بـ«البطل القومي» وحزب الله بـ«الخائن المذهبيّ». الكل يصدق، إلا الشيوعي السابق الجالس في الزاوية: «ليس في الشعب السوريّ نَفَس طائفي واحد، الطائفية صنيعة النظام». تنظيرة: «النظام (المتهم بانتمائه إلى أقلية طائفية لا يبلغ تعدادها ثلاثين في المئة من الشعب السوري) يسعى إلى تأجيج الصراع الطائفي». لا تسأل عما يربحه النظام من شد عصب الثلاثين في المئة «الذين معه» ما دامت الطائفية نفسها ستشدّ عصب «السبعين في المئة الذين ضده». سؤال كهذا يعدّ دفاعاً عن النظام. مهلاً، «سلّمت معك أن النظام هو المسؤول عن إشعال فتيل الطائفية، ماذا ستفعل وقد اشتعلت المحروسة؟». «سأكبّ عليها الكاز والبنزين والمازوت، وأهتف: تنحَّ وإلّا. أنا مع الحرب الأهلية، ما دام التاريخ سيكتب أن النظام هو المسؤول عنها». النظام مسؤول عن المشاكل. موافق. من المسؤول عن الحلول؟ النظام يحرق البلد. موافق. من يطفئه؟ «بلاك لايبل مع تلجتين يا رضا». ما همّه: «الثورة المسلحة ـــــ يقول ـــــ أحلى من الثورة السلمية». المهم سقوط خصمه الشخصيّ جداً: الرئيس بشار الأسد. الأخير منعه من المقاومة، وضَرَب الأحزاب العلمانية. الآن تدق ساعة الانتقام. على الطاولات، أحقاد فوق أحقاد فوق أحقاد: الشيوعيّ القوميّ الناصريّ الفتحاوي الإسلاميّ البعثيّ المطرود، والصحافيّ الرسام الكاتب الممثل. أحقاد تمنع مدّ النظر.
للوهلة الأولى، ليس للنقاش في المسؤوليات عما حصل ويحصل وسيحصل أي نفع. ففيما الشباب يتدفأون بالنبيذ في الداخل، «يزحط» الغطاء في الخارج عن الوطن في البرد القارس. يختصر أحد الشبان المشهد ببراعة: ثمة عشرة في المئة من الشعب السوري يمثّلون أساس النظام الحالي مستعدون لإحراق البلد ــــ بمَن فيه أنفسهم ــــ للحفاظ على مكتسباتهم كاملة. وثمة عشرة في المئة من الشعب السوري يمثلون البيئة الحاضنة للمتظاهرين المستمرين بالتصعيد مستعدون لإحراق البلد ــــ بما فيه أنفسهم ــــ للفوز بالسلطة. وبين الإثنين شعب أخرس بلا قادة ولا إعلام أو إعلان. لا مكان هنا لمعارض وطني مثل حسن عبد العظيم، ولا مكان لمنطق ميشيل كيلو المعارض البنّاء، ولا لخشية لؤي حسين من الحرب الأهلية. «هؤلاء معارضون هؤلاء؟». في الديموقراطية الحديثة: «قاتلٌ من يبحث عن الحل مع القاتل، خائنٌ من يشكك في أهداف بعض الثوار، مجرمٌ من يطلب ضمانات. أنت شريك في الجريمة. تخيّل أنك تتفلسف على ثورة، الثورة يا أخي فعل مقدس». «تنحَّ وإلا». ترشق مخاوف هؤلاء وحكمتهم بالبيض والاتهامات والحجارة. النظام يسجنهم، الثورة تخونهم. لا صوت يفترض أن يعلو على صوت العشرة في المئة. هنا أو هناك، صوت البندقية. تنتهي نظرية الشاب، فيملّحها جاره: لكن الفرز مستمر، ترانا يومياً ننحاز إلى هذا أو ذاك، انظر إلينا. نعم للوهلة الثانية يتبيّن أن أكثرية الشعب السوري تراقب النقاش في شأن المسؤوليات عما حصل ويحصل وسيحصل لتختار الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك.
في سوريا، لا يكفي العنوان البرّاق الشريف العظيم «ثورة على الطغيان» للانحياز إلى الثورة. هناك شعب يفكر، يحمل أسئلة مشروعة، وثورة مستكبرة ترفض الإجابة. بعد تسعة أشهر، التأييد الشعبي ليس كبيراً لـ«ثورة مشروعة ضد الطغيان تأخذ البلد إلى المجهول على مختلف المستويات». مصر وتونس مرة أخرى؟ هناك الثورة أحلّت الجيش محل الرئيس، هنا تود الثورة إطاحة الجيش قبل الرئيس. جوزف صقر ما زال يغني، فيما أصدقاء إميل المختلفون دائماً في الرأي، ممن اعتادوا التلاقي حول كؤوس سعادة في «نينار»، باتوا يرفضون الاجتماع بعضهم ببعض. هوذا الفرز الحاد على مستوى المثقفين، ويمكن بناءً عليه تخيل الفرز على مستوى غير المثقفين وعلى مستوى المسلحين في الجهتين.
في الجهتين مسلحون؟ يمكن مَن يجلس في مكتبه في بيروت أو نيودلهي تكذيب وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون والاستمرار في الترويج للثورة السلمية. يمكنهم أيضاً التنظير حول مسؤولية النظام عن «تسليح الثورة». أما من هم في سوريا فيتعاملون مع حقائق. الكمائن التي ينصبها المسلحون للفانات، التي باتت لها اليوم في سوريا طوائف، يراها الجميع ويشهد على أعمالها. تماماً كالهجمات المضحكة التي ينظمها «الجيش السوري الحر». مسلحون في الجانبين، ما على الشعب إلا اختيار المسلح الذي يعجبه. وكثيرون يعتقدون أن المسلح المكشوف الرأس الذي يعرفونه أفضل ألف مرة من المسلح المقنّع الذي لا يعرفونه.
عند الأولى بعد منتصف الليل يبدأ موظفو «نينار» بـ«التعزيل» لإثارة انتباه الزبائن إلى وجوب المغادرة. الروس يتجاهلونهم. هم هنا منذ أيام فقط ولم يهضموا التقاليد السورية بعد. ترفع السلطات السورية معنويات الأنصار عبر التأكيد على الدعم الروسي اللامتناهي عسكرياً ومعنوياً وفي مجلس الأمن. وهكذا سرعان ما ستجد في المطعم من يهمس في أذنك: «هؤلاء خبراء، قدموا أخيراً مع الأسلحة الحديثة لتدريب الجيش السوري على استخدامها»، مع العلم أن من أوصلك إلى دمشق، حرص على إمرارك أمام ثلاثة مجمعات سكنية تصل السلطات السورية الليل بالنهار لإعادة تأهيلها بغية استقبال الوافدين الجدد، بعدما سكنها الإهمال إثر سقوط الاتحاد السوفياتي. في شوارعها شبه الفارغة، في العسكر على جانبي الطريق، في «عناصر الكلاشنيكوف» ومعاطف الصوف، في التماثيل، في كأس «تحيا سوريا» الأخير قبيل إقفال «نينار» أبوابه، تبدو دمشق مثل الجمهوريات السوفياتية في السينما الهوليوودية.
الأول: «حلو من الميدان؟». الثاني: «الآن، ميدان؟». الأول: «في حال وجود مشاكل نعود إلى القصّاع». الثالث: «الميدان، شرط الاكتفاء بالحلو دون فوارغ ورؤوس ماعز». من يقنع المئات من المصلين في جوامع الميدان بالخروج كل يوم جمعة في تظاهرة من أحد مساجد الحي الدمشقي المحافظ، لم يستطع إقناع أصحاب المطاعم في الحي نفسه بنزع صور الرئيس بشار الأسد. ليس للتجار غالباً «مزاج» ثورة، فكيف بثورة لا تقدم لهم ضمانات؟ الحوار مع بعض هؤلاء يكشف جزءاً إضافياً من المشهد السوري: أثرت الثورة سلباً دون شك على مصالح التجار، لكن استمرار السلطة والمؤسسات الخاصة في دفع الأجور ولجوء الكثيرين إلى التموين والنزوح الكبير في اتجاه دمشق وحلب، حدّت من ضرر التجار. بعض هؤلاء ممن يمكن الأجهزة الأمنية أن تعدّهم على أصابع يد واحدة يموّلون بعض الاحتجاجات، أما أكثريتهم فما زالت مقتنعة بقدرة النظام على تخليص نفسه من الأزمة التي يتخبط فيها، ولن يرهن هؤلاء مصيرهم ومستقبلهم التجاري بحسابات دولية. «حين يسقط الثور نسلخه. حتى ذلك الحين لن يلوّح التاجر براية حمراء». بعض التجار كانوا ضحية قوائم ثورية طلبت رأسهم بصفتهم ممولين للنظام، فازدادوا التصاقاً به، في ظل اعتقاد غالبية التجار الأساسيين أن النظام الأمني القائم هو الشريك الاقتصادي الأفضل بالنسبة إليهم. ويروي أحد التجار، في هذا السياق، أن الرئيس حافظ الأسد أقام فور وصوله إلى السلطة عقداً بينه وبين عائلات المال الرئيسية في المدن السورية، قضى بسيطرته على الأمن والسياسة مقابل سيطرتهم على المال والاقتصاد. لاحقاً في عهد الرئيس بشار تم الإخلال بهذا العقد. لكن العودة إليه اليوم واردة جداً، على الأقل في عقل التجار. وهؤلاء يعتقدون، بحسب المصدر نفسه، أن «النظام المتخم الذي نعرفه أفضل من نظام جائع لا نعرفه»، في ظل خشية واضحة عند الطبقة الوسطى من الطابع الريفيّ للثورة من جهة، والإسلامي من جهة أخرى.
من الميدان إلى القصاع، تتوقف السيارة بمحض إرادتها أمام بائع للذرة. دمشق غير بيروت: ففيها يقدم «العرنوس» مبروشاً في صحن مع رشّة جبنة وبعض البهارات والزبدة. يتحدث الشباب المتحلقون حول البائع عن طلاقة الوزير اللبناني السابق وئام وهاب قبل أيام على تلفزيون «الدنيا». ينتقلون من وهاب إلى رفيق نصر الله. يقول أحدهم إنه لا يفهم على الأخير: يوماً يدعونا إلى التأهب للقتال، ويوماً يقول إن الأمور بألف خير. يختم الحديث ثالث بالتأكيد على غرابة الاستعانة الرسمية السورية بالسياسيين والصحافيين اللبنانيين كأن ليس في المجتمع السوري من هم قادرون على استقطاب الرأي العام السوري والتأثير فيه. مع العلم أن بروباغندا «الثورة المضادة» التي تتصدرها مجموعة لبنانيين وتؤتى ثمارها الإيجابية في الداخل السوري، هي دون شك أفصح وأفعل من بروباغندا إسقاط النظام ذات الأبواق اللبنانية والمصرية والسعودية والقطرية. النظام يستعين بلبنانيين للدفاع عن نفسه، وخصومه يستعينون بلبنانيين أسوأ منهم وبكل جنسيات العالم لإسقاطه.
في القصّاع، الكهرباء مقطوعة. يزداد التقنين يوماً بعد يوم. من يتهم بعض السوريين بتقليد بعض اللبنانيين، يقول إنهم غالباً ما ينسون التفصيل، فتُشوّه النسخة المقلدة. ها هم يركضون خلف حرب لبنان الأهلية والحرية والديموقراطية دون مازوت ودون مولدات كهرباء. أجمل ما في التقنين، أنك تنام دون مشاهدة «الجزيرة».
تنام؟ صوت جوزف صقر. «تنحَّ وإلا». «تنحوا وإلا». الروس. الأصدقاء وقد باتوا أصدقاء سابقين. الحقد. الطائفية. نضال التي لم ترافقني من بيروت لأن اسمها على الحدود وأصدقاءها مسجونون. التجار. الطرش. الشوارع الفارغة. جدتي التي تتصل كل ساعتين للاطمئنان. البروباغندا والبروباغندا المضادة. رلى وقد باتت معجبة بسعد الحريري. دمشق الجديدة وقد باتت أشبه ببيروت القديمة. ما أصعب النوم!



إطلاق 912 موقوفاً

افرجت السلطات السورية عن اكثر من 900 موقوف «تورطوا» في حركة الاحتجاج على نظام الرئيس بشار الاسد، كما ذكر التلفزيون الرسمي أمس. واكد التلفزيون «اخلاء سبيل 912 موقوفاً تورطوا في الاحداث الاخيرة ولم تتلطخ ايديهم بالدماء». وأضاف ان الافراج عنهم يأتي في أعقاب إخلاء سبيل اكثر من 1700 موقوف في وقت سابق هذا الشهر.
ومنذ بداية تشرين الثاني/نوفمبر، اعلنت السلطات انها افرجت عن 1733 موقوفاً. وفي 15 تشرين الثاني، اعلنت الافراج عن 1180 موقوفاً «تورطوا في الاحداث»، وفي الخامس من تشرين الثاني، اعلنت الافراج عن 553 شخصاً اوقفوا خلال عمليات القمع.
وتقدر الهيئات السورية للدفاع عن حقوق الانسان والامم المتحدة ببضعة الاف عدد الاشخاص الذين اوقفوا خلال قمع حركة الاحتجاج التي بدأت في 15 آذار.
وفي تطور منفصل، قال ناشطون حقوقيون ان قاضياً في دمشق أمر بالافراج عن تسعة ناشطين اعتقلوا في آب. وقال الناشط مازن درويش انهم سيخرجون خلال ساعات وانهم ينتظرون أوراقهم.
(أ ف ب، رويترز)