عند نهاية «أوتوستراد حسنين»، يجلس أمام الجامع شابان يستمعان إلى أغنية لعبد الحليم على الهاتف النقال. بجوارهما امرأة أربعينية تتسلى بكيس بزر مع صبي لم يتجاوز العاشرة. عند نهاية المشهد، انعطافة إلى اليسار ثم انعطافة ثانية إلى اليمين، وبعدها أخرى إلى اليسار، فاليمين مجدداً ويمين آخر، إلى زاروبة معتمة. بضع خطوات وانعطافة إلى اليسار، وتطل عليك، من تحت إكليل من الأسلاك الكهربائية، ساحة الشعب. وساحة الشعب هي رئة مخيم شاتيلا الوحيدة. وهي، إلى كونها ساحة تستضيف احتفالات النصر وتحيي ذكرى المجازر، استخدمت معرضاً في الهواء الطلق ومسرحاً لمهرجانات سياسية. لكنها تبقى، بعيداً عن وظيفة التجمع من أجل حدث ما، ملعب أطفال المخيم الوحيد الذين يرفضون التخلي عنه لأي كان.
المسرحية ذاتها تتكرر عند الإعداد لأي نشاط: مجموعة من الفتية تقف قرب غرفة الكهرباء، تراقب تركيب المسرح قرب حائط «مركز الشباب» تحت صورة الشهيد أبو علي مصطفى. يرصدون تحركات «الدخلاء» قبل التوجه «بكل براءة» للبدء بلعبة كرة القدم التي تتخللها شجارات ورمي بالحجارة تصيب «خطأً» القائمين على التحضيرات، فتعلو سريعاً ضحكات الأولاد.
فتاتان لا يتجاوز طول الواحدة منهما متراً واحداً، تتمشيان في الساحة وتطلقان قهقهات عالية. تجلسان على حافة المسرح مع زجاجتي «ميرندا». تنسكب إحداها على غطاء المسرح، فتصرخ إحداهن وتسبق صديقتها مسرعة إلى خلف الحائط المواجه لمكتب فتح، لتسترقا النظر. وما إن تتأكدان من أنهما نجتا من العقاب، تناديان المزيد من صديقاتهما لتولي مهمة «تخريبية» جديدة. تربض قطة مرقطة بالأبيض والأسود على سطح غرفة الكهرباء، ترمق بعينيها الناعستين المارة في الساحة التي لا تخلو من الأطفال حتى في ساعات المساء. هذا المساء بقي منهم ثلاثة جلسوا تحت ضوء القمر، على «الحفة» يتجاذبون أطراف الحديث بصوت منخفض كي لا يزعجوا السكان النائمين خلف جدران البيوت المحيطة بالساحة. هؤلاء السكان الذين كانوا بالأمس القريب جيران «الحكيم» جورج حبش والشهيد أبو علي مصطفى، الذي سميت على اسمه الساحة رسمياً.
ففي عام 1976، استأجرت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 90% من شقق المبنى الذي كان مشيداً على أرض الساحة من مالكه اللبناني من آل شعيتو. واستقبل الحكيم وأبو علي مصطفى عشرات الزوار في مركز الجبهة الذي كان يقع خارج حدود مخيم شاتيلا الأصلية. المبنى شهد اجتماعات ولقاءات على مستويات رفيعة، وربما كان قد شهد اتخاذ قرارات مصيرية في تاريخ القضية الفلسطينية، إلى أن قضى التاريخ عليه في قصف «عشوائي» خلال حرب المخيمات عام 1986.
بعد 11 عاماً، افتتح الاحتفال بذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا الساحة، فيما كانت أنقاض هذا المبنى لا تزال تتكوم فيها. وأمام صور من عرفوا من شهداء المجزرة، تجول مفتتحاً كلاً من الراحلين أبو ماهر اليماني وشفيق الحوت. بعدها توالت النشاطات تقيمها جميع الفصائل والأندية والجمعيات الفلسطينية، بعد إزالة الردم عام 1998.
ولكي تفهم أهمية الساحة، ما عليك إلا أن تدقق النظر في جميع الملصقات التي تدعو إلى نشاط جماهيري سياسي أو ترفيهي، حيث ستقرأ أسفل كل واحد منها:
المكان: ساحة الشعب ـــــ مخيم شاتيلا. وبرغم التسمية الرسمية، إلا أنهم قليلون هؤلاء الذين لا يستخدمون اسم «ساحة الشعب» ويفضلون عليه الاسم الرسمي للساحة الذي أُطلق منذ مدة ليست بطويلة عليها. وقليلون من يجرؤون على تسميتها «ساحة أبو مجاهد» علناً، لأنهم يعلمون أنهم لن يسلموا من محاضرات مسؤولي «مركز الشباب» عن تاريخ الساحة وأهميتها بالنسبة إليهم وللجبهة الشعبية، وأنها «ساحة الشعب كله وليست لفرد واحد».
«المكان» استضاف بعد الحكيم والشهيد، فرقة العاشقين وأبو عرب، فناني الثورة إلى جانب فرق الراب الفلسطينية التي لا تغيب عنها احتفالاتها.
وكما للأطفال والفصائل السياسية «مصلحة» في الساحة، فإنها للنساء ملاذ وحيد. تحمل بعض النسوة أطفالهن على خاصراتهن ويمشين متمهلات في الساحة، ذهاباً وإياباً لمرة واحدة. على الأرجح «لتشميس» أطفالهن من رطوبة المنازل، وربما لممارسة الرياضة والتقاط أخبار الجارات من غيرهن من النسوة اللواتي يزرن «وسط البلد».
وقلما تستضيف «وسط البلد» نقاشات الشباب عن مصيرهم كلاجئين أو حتى عن آخر فيديو كليب لهيفا وهبي؛ فحائط الجامع ومقهى البليار يتكفلان بذلك. إلا أنها تستضيفهم عشاقاً وجدوا في ضجيج النشاطات المقامة فيها مساحة للقاءاتهم، وسط العيون المتجهة نحو حركات «الدبيكة» والآذان المنصتة إلى ألحان «الجماهير المحتلة». لقاءات لم تخلُ من تبادل قصاصات أوراق كتبت عليها قصائد لمحمود درويش، أو أشرطة أغانٍ لتامر حسني. فتحمر الساحة خجلاً أمام مغازلة العشاق، وتشعر بالغصة مع كل قصة حب تنتهي بزواج الفتاة بمغترب وهجرة الشاب إلى الخليج أو أوروبا.
ساحة كل الشعب تحتضن جزءاً كبيراً من حكايات أبناء مخيم شاتيلا. هي حاضرة دائماً في قصص طفولتهم، وحبهم الأول ومآسيهم. مئة وعشرون متراً مربعاً كانت سابقاً خارج حدود المخيم، لكنها تحولت إلى قلبه، وحين نقول ذلك، لا نقصد فقط الجغرافيا.



العقد الذي استأجرت الجبهة الشعبية بموجبه معظم المبنى الذي كان مقاماً على أرض ساحة الشعب من مالكها الأصلي ما زال في مكتبها ببيروت. وبحسب القائمين على «مركز الشباب» التابع للجبهة، فإن المالك من عائلة شعيتو لم يطالب باسترجاع الأرض التي وضع المركز يده عليها. وتسعى مجموعة مستقلة من أبناء المخيم إلى الحصول على تمويل لتحويل الساحة إلى ملعب رياضي يكون مجهزاً لاستضافة الأنشطة التي تقام فيه عادة. ولا تزال رحلة البحث عن ممول جارية بعد مرور أكثر من عام على إعداد دراسة المشروع.