تونس | إنّ أي عملية انتقال سياسي، سواء كانت إلى الديموقراطية أو حتى إلى الدكتاتورية، تمر عبر دوامة من الاضطراب الأمني، لأن المرور من حالة إلى أخرى يتطلب عملية ديناميكية اجتماعية خارقة للعادة، فالحديث يدور على سباق انتخابي، أوصل فصيلاً سياسياً معيناً إلى تحقيق الغالبية في سلطة تشريعية، ذلك عين ما بدأت تشهده تونس، بعد إلغاء الهيئة العليا للانتخابات في تونس 6 قوائم لـ «العريضة الشعبية»، التي برزت في نتائج الانتخابات الأخيرة كـ «ظاهرة سياسية» بطابع اجتماعي، بعد الظهور على سطح الأحداث كقوة سياسية متوسطة، إثر تحقيقها 19 مقعداً ضمن المجلس التأسيسي، ما طرح عديداً من الأسئلة بشأن كيفية حصول هذا التيار المغمور على نتيجة فشلت أكبر الأحزاب «التاريخية» في تحقيقها.
الدعاية السياسية التي اتبعها الهاشمي الحامدي، زعيم «العريضة الشعبية للعدالة والحرية والتنمية المستقلة»، كانت هي الحاسمة في إسقاط القوائم الست، إذ إنّه على أساس القانون الانتخابي الجديد فإن «من حق الهيئة إسقاط أي عريضة مخلة بالقانون المنظم للحملات الانتخابية المنصوص عليه في المادة 52 من قانون الانتخابات». تلك المادة من جهتها تنص على «أن أي فعالية سياسية يثبت بالدليل القاطع تمويلها من مصادر مشبوهة يجري إقصاؤها». وحسب عدة مصادر من داخل الهيئة فإنه ثبت أن الحامدي استعمل أموالاً مشبوهة، قد «تكون متأتية من أنقاض الحزب السابق في الخارج، لتمويل الحملة الانتخابية».
هذه الأموال تقول مصادر قريبة من الموضوع لـ«الأخبار» متأتية في مجملها من بنك بريطاني كان على ذمة «التجمع الدستوري الديموقراطي» (الحاكم سابقاً)، الذي حُلّ في شهر آذار الماضي. ولعل مثل هذه الأنباء تشير إلى أن هذه «الظاهرة السياسية» كان وراءها من يدعمها من خلف الستائر، وهو ما يعيد مرة أخرى مسألة المال السياسي، التي برزت قبل بداية الحملة الانتخابية، إلى سطح الأحداث، وخصوصاً أن تظاهرات عديدة في البلاد، ولا سيما من العلمانيين، خرجت لتشجب فوز حركة النهضة، ووصفت فوزها بتدخل المال السياسي الخارجي، وهو ما طرح مسألة ولاء الحركة لأجندات خارجية.
لكن ما هي تلك الأموال التي جرى التثبت منها؟ من أين هي متأتية؟ هل فعلاً أنها من بقايا أموال العهد البائد؟ سيناريو مثل هذا مؤكد، فالمال الذي اعتمده الحامدي «متأتٍّ» من أموال وكالة الاتصال الخارجي التي كان يعتمد عليها بن علي في شراء الذمم الإعلامية، وتلميع صورة النظام في الخارج طوال 23 سنة.
هذه الوكالة تمثل ذراعاً من الأذرع الاستخبارية التي كان يعتمد عليها نظام بن علي، في مراقبة المواد الصحافية التي تنشر أو تبث عن النظام في العالم، وفي توزيع وإغلاق «حنفية الإشهار العمومي»، وفي شراء ذمم الأقلام والأفواه بالمال لتجميل صورة بن العلي المهترئة في العالم. وضمن ملف «وكالة الاتصال الخارجي» لدى القضاء التونسي ثمة ملف كبير، لقناة «المستقلة» التي تبث من لندن. هذه القناة المثيرة للجدل منذ تأسيسها في العشرية الأولى من القرن الحالي، حيث كان خط تحريرها مناوئاً للسلطة آنذاك إلى أن غيرت فجأة لتعمل لمصلحة الرئيس المخلوع في ما بعد، ولتكون بمثابة «بوق» للنظام بعدما «أغدق عليها بن علي من مال الشعب». وهو ما كان مثبتاً بالفعل في الأوراق المالية وصور الصكوك التي منحتها الوكالة للحامدي، وعن طريق بنك بريطاني تعامل معه الحامدي في تلك الفترة إلى ما بعد الثورة، وقبل أن تجمّد لندن أموال الحزب الحاكم سابقاً، أي بين شهري شباط وآذار.
من جهته، فإن «المسيرة السياسية» للحامدي كانت بمثابة مسيرة لسياسي الركوب على الكراسي، فمع ماضٍ نضالي في المعارضة الإسلامية في الجامعة، وانتمائه إلى حركة النهضة، وجد الحامدي نفسه في أوائل التسعينات «مطروداً» من الحركة بسبب مواقفه من حرب الخليج الثانية، في ما عرف بعاصفة الصحراء على العراق، حيث كانت النهضة تقف إلى جانب صدام حسين، إلا أن الحامدي، الذي طار إلى الجزائر بعيد خروجه من السجن، وفيها أسس مجلة «المستقلة»، قبل أن يهاجر إلى عاصمة الضباب، حيث أسس بـ «جهود خليجية» القناة التلفزيونية، كان يصرح بأن الحركة تقف إلى جانب الكويت ضد العراق، وهو ما «دعا الحركة إلى إعلان عدم انتمائه إليها» حسب ما رواه أحد أعضاء «النهضة» لـ «الأخبار».
ويبدو أنه من المؤكد أن الحامدي، الذي لم يعد إلى تونس بعد الثورة مثلما فعل سياسيون مغتربون آخرون، آثر البقاء في لندن لقيادة حملته الانتخابية من قناة «المستقلة»، التي لم تحترم الآجال القانونية لوقف الحملات الإعلانية، باعتبار أن قناته تبث من الخارج، وهي ليست تحت طائلة القانون التونسي، ليسمح له ذلك بنشر «أفكاره السياسية»، واللعب على «العقول البسيطة»، بطرح برنامج سياسي غير واقعي كان أحد تجلياته «خفض سعر الخبز إلى 100 مليم»، وأنه سيكون رئيس الجمهورية المقبل، ليغيّر العاصمة إلى القيروان، وليكون مسقط رأسه (سيدي بوزيد) «عاصمة اقتصادية».
لكن الحامدي لم يكتف في استراتيجيته السياسية في طريقه إلى التأسيسي بالدعاية السياسية، بل كان هناك «عمل تعبوي على الأرض» كفله أفراد من أهل منطقته في سيدي بوزيد، كانت تلك نقطة الثقة التي كسبها الحامدي ليبدأ عملية تجنيد طويلة لـ «ذوي القربى» في كافة المناطق في الجمهورية، ليكونوا رؤساء قوائم، كان بعضهم من متحملي المسؤولية ضمن «التجمع المنحل»، الذين صدرت في شأنهم أحكام، تشبه إلى حد بعيد قوانين «اجتثاث البعث» في العراق، تجري عن طريقها محاولة درء رجوع التجمعيين إلى السلطة.
إن التحليل يقودنا مباشرة إلى رد فعل أهالي سيدي بوزيد على قرار إقصاء القوائم الانتخابية للقائمة المستقلة، الذين خرجوا في ليلة الانتخابات إلى الشارع متوعدين حركة النهضة، التي رفضت أن تتحالف مع العريضة على حسب كلام حمادي الجبالي، الأمين العام للحركة، ومهددين بـ «ثورة جديدة» ضد الإسلاميين، الذين بدأوا بالفعل الحكم منذ إعلان النتائج الأولية.