تونس | بعد سقوط نظام الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، شهد المجتمع التونسي موجة تديّن غير مسبوقة، ظهرت بأشكال متعددة: من الانتشار المكثّف للروضات وللمدارس القرآنية والدينية والنقاب، إلى تحجيب الفتيات الصغيرات اللواتي قد لا تتجاوز أعمارهن الخمس سنوات.
ونظر العديد من التونسيين بعين الريبة حيال ما يجري، خصوصاً أنّ ذلك يمثّل ظواهر غريبة عن المجتمع، لعب دعاة الوهابية المتوافدون آنذاك، ووسائل إعلام، أدواراً حيوية في تنميتها.
منذ 2011 وحتى اليوم تبدلت أطوار الحكم في البلاد، خصوصاً مع وصول الباجي قائد السبسي إلى سدة الرئاسة نهاية العام الماضي، ومحاولته تصوير مشروعه الرئاسي بإعادة ربط تونس بماضيها «الحداثي»، وهو مشروع بدا في الوقت نفسه أداة مهمة للاستثمار السياسي.
في نهاية الأسبوع الماضي، خلال احتفال تونس بمناسبة ذكرى إصدار مجلة الأحوال الشخصية (1956) وبالعيد الوطني للمرأة التونسية، توجّه الرئيس الباجي قائد السبسي في كلمة له إلى الحكومة، طالباً منها تطبيق القانون ومنع الحجاب في دور الأطفال والمدارس الابتدائية، ناعتاً الظاهرة بالتخلف في المعاملة، وذلك في إشارته خصوصاً إلى دور الأطفال الخارجة عن القانون والمتمردة على «أساليب التربية العصرية» التي وضعتها الدولة ومؤسساتها التربوية.
وقال السبسي إنه لم يعد مقبولاً في مجتمع كان له السبق في تعليم المرأة أن تحجّب بنت الأربع سنوات أو التي ما زالت في المدرسة الابتدائية، داعياً في سياق الكلمة إلى ضرورة التصدّي بقوّة القانون لظاهرة الزجّ بالفتيات في متاهات تتنافى مع حداثة تونس وقوانينها. وأكد أنّ هذه الأمور منافية لمجلة حقوق الطفل ولأبسط قواعد التربية العصرية، مضيفاً أنّ على الدوائر المسؤولة مقاومتها بتطبيق القانون بشدة.

دعا إلى التصدّي للزجّ
بالفتيات في متاهات تتنافى وحداثة تونس

وتبع توجيهات الرئيس التونسي حديث وزيرة المرأة والأسرة، سميرة مرعي، عن وجود أكثر من 800 روضة قرآنية في البلاد تعتمد أغلبها على المنهج الباكستاني والأفغاني في تدريس الأطفال، وهو ما تعمل الحكومة الحالية (منذ هجوم سوسة الإرهابي في حزيران/ جوان الماضي) على غلقها واحتوائها.
وجدير بالذكر أنّ وزارتي الشؤون الدينية والمرأة في تونس اتفقتا أخيراً على تنظيم العمل التربوي داخل رياض الأطفال والكتاتيب، وقد اعتبر وزير الشؤون الدينية، عثمان بطيخ، أن الروضات القرآنية خارجة عن الإطار القانوني المعتمد من قبل الوزارة التي تعتمد «المناهج الحديثة للكتاتيب وتركز على تربية الناشئة على قيم الاعتدال والتسامح».
في المقابل، علّق المسؤول في وزارة الشؤون الدينية، سليم بالشيخ، على توجيهات السبسي، في حديث إلى «الأخبار»، موضحاً أنّ موضوع حجاب الفتيات الصغيرات يتجاوز الوزارة لأنه «من مشمولات دار الإفتاء ومفتي الجمهورية، لكن الوزارة ستسعى إلى التوعية من خلال خطب الجمعة والوعاظ الدينين نشر ثقافة الاعتدال ودحر الممارسات الدينية وبعض المظاهر الغريبة على الثقافة التونسية».

نحو معركة سياسية؟

تصريحات السبسي المتعلقة بحجاب الصغيرات، وضعته في مرمى نيران عدد من الجهات، من بينها قيادات «حركة النهضة» وجمعيات دينية كجمعية «دار الحديث» الزيتونيّة، التي ذهب رئيسها، فريد الباجي، إلى حد اعتبار أنّ «الفتاة المسلمة إذا حاضت ولو كان عمرها 11 سنة وتدرس في الابتدائي يجب عليها شرعاً أن تغطي رأسها وجميع بدنها إلا الوجه والكفين». حتى أنّ الشيخ الزيتوني قال إنّ رئيس الدولة وكل من سيحاول منع «حجاب المسلمة» سيقود إلى «فتنة في المجتمع وفوضى تضعف من مكافحة الإرهاب»، محذراً السياسيين في الوقت نفسه من التدخل في الشأن الديني.
وفي الساحة السياسية، فتحت توجيهات الرئيس التونسي الباب أمام جدال واسع مع «حركة النهضة». ففي حديث إلى «الأخبار»، يقول القيادي في الحركة، عبد اللطيف المكي، إنّ رئيس الجمهورية استغل عيد المرأة وافتعل موضوع الحجاب بالرغم من عدم وجود هذه الظاهرة، مضيفاً أنّ «ما تحدث عنه قائد السبسي من إجبار فتيات الأربع سنوات على لبس الحجاب لا يجب فهمه خارج ما تقوم به وزارة الشؤون الدينية من إجراءات تعسفية وعزل الأئمة المستقلين»، في إشارة إلى ملف آخر زاد من الحساسية بين «النهضة» والرئيس التونسي، يتمثّل بالحملة الحكومية لعزل الأئمة المعروفين بتبنيهم للفكر التكفيري أو حتى الوهابي المعروف في تونس بالسلفية العلميّة.
ويضيف القيادي في «حركة النهضة» أنّ «حديث السبسي يكشف نياته للمستقبل... افتعال التجاذبات في البلاد حول المسائل الدينية، في محاولة للهروب من استحقاقات المرحلة والتنصل من الوعود الخيالية التي قطعها حزبه نداء تونس خلال الانتخابات». ويعتبر المكي في حديثه إلى «الأخبار» أنّ تعاطي الباجي قائد السبسي مع هذه المسألة «سيُفشل كل الجهود التي بذلتها حركة النهضة لتجنيب البلاد مخاطر الانزلاق في التجاذبات السياسية والدينية، ما يفرض على رئيس الجمهورية إدراك خطورة تصريحاته في المستقبل والابتعاد عن الحسابات الحزبية الضيقة».
وفي السياق نفسه، ترى النائبة في البرلمان عن «حركة النهضة»، يمينة الزغلامي، أن رئاسة الجمهورية ووزارة التربية ليس لهما أي حق في منع الحجاب أو المحجبات عن الدراسة، مشيرة إلى أنّ التونسيين عانوا طويلاً من قمع الحريات الدينية، خاصة خلال عهد بن علي الذي منع الحجاب حتى في الجامعات. ويُذكر أن نظام بن علي كان يمنع ارتداء الحجاب في كل المؤسسات التربوية والجامعية من خلال ما يُعرف بـ«المنشور 108» ــ الملغى بعد هروب بن علي.