تونس | قد لا تختلف آراء المواطنين التونسيين كثيراً عن آراء الخبراء السياسيين التونسيين، لكنها تعبّر أكثر عن عدم المفاجأة بنتائج الانتخابات التي أدت إلى إقصاء تيارات سياسية تاريخية في البلاد. فالمحللون السياسيون يشيرون في المجمل إلى أن «الشعب التونسي اختار التوجه المحافظ» أكثر من التوجه التحرري، وهو ما أكده لـ«الأخبار» أستاذ الأنظمة السياسية المقارنة، رئيس قسم العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، الدكتور حمادي الرديسي. ويضيف الرديسي في مداخلته أن «العديد من المعطيات تداخلت لنصل اليوم إلى هذه النتيجة التي حسم فيها الشعب التونسي الصراع الذي تأجّج في الشهور الماضية بشأن الهوية، بأن اختار أحزاباً محافظة جاءت في بياناتها الانتخابية حماية الهوية العربية والإسلامية كهوية لتونس». الرديسي فسّر رأيه بأن نتائج الانتخابات قوّضت الحركات ذات الاتجاه اليساري، وعوّضتها بأحزاب ذات توجه تقليدي محافظ. وأضاف أن «الأحزاب اليسارية وقعت في مستنقع الصراع على الهوية عندما طرحت للنقاش، وهو ما جعلها تُمنى بهزيمة كبيرة في نتائج الانتخابات الأخيرة».
وعن تركيبة المجلس التأسيسي المقبل، يشير الرديسي إلى أن «التكتلات نقطة وقع حسمها منذ مدة في نطاق المجلس، وخصوصاً أن الأنباء تشير إلى أن حركة النهضة ستعقد تحالفات مع كل من حزب المؤتمر من أجل الجمهورية لمنصف المرزوقي، والمؤتمر من أجل الجمهورية، وهو ما يوفر تكتلاً بغالبية ساحقة في صلب المجلس التأسيسي».
هذا المجلس الذي مهمته الأساسية تبقى كتابة دستور جديد لتونس تعيش به البلاد على امتداد الأجيال المقبلة، والذي سيطرح طبيعة النظام السياسي المقبل ومشاريع أبواب القوانين الأساسية للحياة العامة، ويشير إليه الرديسي بأنه سيكون «نظاماً برلمانياً»، وهو ما طرحته حركة النهضة في برنامجها الأساسي، وكذلك ما يدافع عنه إلى حدّ ما حزب المؤتمر من أجل الجمهورية.
الرديسي لم يخف رفضه لمثل هذا النظام الذي طرحته الحركة الإسلامية وستحاول إمراره في المجلس التأسيسي، مضيفاً أن طبيعة النظام البرلماني قد تقود إلى نظام محاصصة غير ديناميكي بالنسبة إلى تونس، مستشهداً في هذا النطاق بالنظام السياسي البرلماني في لبنان.
وعلى عكس ما تطرحه الحركة الإسلامية، يفضّل الرديسي أن يكون النظام السياسي للبلاد قائماً على أساس نظام شبه رئاسي برلماني، وهو النظام المعتمد في فرنسا، وهو البند نفسه الذي نصّت عليه «الأحزاب الخاسرة» في الانتخابات الأخيرة، ومنها الحزب الديموقراطي التقدمي والقطب الديموقراطي الحداثي ذي التوجهات الإيديولوجية اليسارية، والتي كانت منذ البداية مع خطوة تحوير الدستور التونسي لسنة 1959 ليكون مواكباً للحظة الراهنة.
الرديسي أكد أن حركة النهضة ستفشل في تأليف حكومة وحدة وطنية، لرفض التقدمي والقطب التحالف معها في صلب جهاز تنفيذي واحد، وأنه يبدو أن الحركتين ستتجهان نحو المعارضة، وخصوصاً أن مدة المجلس التأسيسي لن تستمر أكثر من سنة واحدة، وهو ما سيجعل النهضة تلجأ إلى قيام حكومة أغلبية وحكومة ائتلاف وطني مع الحركات التي ستتكتّل معها.
معطيات الرديسي واستنتاجاته تأتي في توقيت قالت فيه مصادر قريبة من المطبخ السياسي لحركة النهضة لـ«الأخبار» أن زعماء الحركة والمؤتمر والتكتل اجتمعوا لمناقشة إمكان التحالف في صلب المجلس التأسيسي وتكوين كتلة أغلبية مطلقة. وهو ما يطرح سؤالاً كبيراً بشأن هذه التجربة الديموقراطية الأولى التي «تجمع أطرافاً سياسية لا يعرف بعضها بعضاً جيداً»، حسب تعبير الدبلوماسي التونسي السابق، المحلل السياسي عبد الله العبيدي، الذي يضيف أن هذه الانتخابات خلّفت مشهداً سياسياً تتمازج فيه 3 فئات سياسية متنوعة؛ أولاها فئة سياسية متأثرة بالغرب، وفئة سياسية ضد الغرب، وفئة سياسية ثالثة بينهما، وهي الفئة التي عبّر عنها بالفئة «الدستورية» المتأثرة بالفكر البورقيبي.
تلك البروقيبية التي أثّرت على تاريخ تونس منذ الاستقلال لم تجن أيّ نتائج في الانتخابات التأسيسية. كلام العبيدي يدل على أن التونسي إذاً اختار القطع مع الحقبة السابقة والتنظيم السياسي الذي طرحه الرئيس التونسي الراحل، وهو ما يدحضه قائلاً إن «الدساترة» بعد سقوط عرشهم السياسي توجهوا بنسبة 90 في المئة نحو النهضة والتيارات المحافظة الأخرى. ويشير في هذا السياق إلى «أنه يجب أن يعمّ الحوار بين التيارات السياسية التي صعدت على مستوى المجلس الوطني ليدفع ذلك باتجاه الاستقرار». ويعطي العبيدي أهمية قصوى للحوار بين القوى السياسية الحالية ليصلوا إلى إقرار دستور، خاصة مع بدايات وجود تكتلات في صلب المجلس. إذاً، التحدي الأبرز بالنسبة إلى العبيدي الآن هو خلق وفاق وطني بين القوى السياسية التي نجحت في الانتخابات.
ورغم ما تطرحه التحديات السياسية الآنية في تونس، فإن محمد طوير، الإعلامي والمحلل السياسي التونسي، يرى أن تركيبة المجلس السياسي معقولة جداً بعد الانتخابات، ويشرح موقفه بأنه لا يوجد أي تيار يستطيع فرض أجندته السياسية، «إذاً، لا بد من وفاق بين تلك الأحزاب، لتحقيق ما يرنو إليه الشعب التونسي من الانتخابات التأسيسية».
ويشير محمد في تصريحه لـ«الأخبار» إلى أن المعارضة المقبلة سيكون لها شأن كبير في مراقبة تصرف الحكومة، مضيفاً أن مفهوم المعارضة «سـيتغيّر بعد العرس الديموقراطي التونسي». ورغم كثرة الانتقادات لنتائج الانتخابات، إلا أن محمد متفائل بما أفرزته صناديق الاقتراع، حيث يفسر ذلك التفاؤل بأن تونس «لن تتراجع إلى الوراء»، معللاً رأيه بأن الأغلبية التي ستنشأ في المجلس التأسيسي هي الضامنة لتنفيذ أحلام المجتمع التونسي ما دام أحد لم يحقق أغلبية المقاعد في المجلس المقبل، وأن مدة المجلس عام واحد. فإذا لم تحقق النهضة ما قدمته في برنامجها، فسيكون ذلك بمثابة «حفر قبرها بيدها».
وعن كيفية تعامل الغرب مع الحكومة التونسية الجديدة، يشير المحلل السياسي إلى أن الغرب ودول العالم بصفة عامة تنتظر نتائج «تجربة ديموقراطية ناشئة» في أولى دول الربيع العربي.