«لو أن الملك عبد الله هو الذي رحل فجأةً لما كانت السعودية على هذا القدر من القلق والتوتر والاضطراب». هكذا لخص مصدر سعودي وقع رحيل الرجل الثاني في السعودية، الأمير سلطان بن عبد العزيز. وقال إن الترتيبات الخاصة برحيل الملك تكون في العادة روتينية، وتتمثل في تولّي وليّ العهد العرش بصورة تلقائية، ومن ثم تجرى بقية الإجراءات وفق القواعد المتبعة. لكن رحيل الأمير سلطان جاء ليكسر القاعدة القديمة من الناحية التقنية للمرة الأولى في تاريخ المملكة، وسيكون الملك عبد الله أول ملك سعودي يختار وليّ عهده لمرتين.
وتبدو مهمة الملك مزدوجة، فهو أمام صفحة قديمة من تاريخ المملكة انطوت برحيل سلطان، وعلى عاتقه يقع ثقل فتح صفحة جديدة، وسط مخاوف داخلية وخارجية من انتقال الحكم إلى الأمير نايف وزير الداخلية، الرجل الذي يحوز إجماع من هم حوله لكونه يمثّل قطب المحافظة والأكثر قرباً من المؤسسة الوهابية المتشددة، التي تعارض كل انفتاح سياسي واجتماعي وديني.
في هذا الوقت، يبدو الملك عبد الله مطالباً، على وجه السرعة، بأن يقف إزاء جملة من الاستحقاقات الهامة. الاستحقاق الأول هو تعيين وزير دفاع جديد يحل في موقع الأمير سلطان الذي يتولى الوزارة منذ سنة 1962. ويكتسي هذا الأمر صعوبة بالنظر الى عوامل عدة. أولها أن الوزارة تعدّ شبه إقطاعية كاملة للأمير سلطان منذ خمسين سنة، فهو وحده المقرر في وزارة تعادل موازنتها نصف موازنة المملكة السنوية، والجزء الأساسي منها يصرف في صفقات التسلح الخارجية التي كان للولايات المتحدة منها، على الدوام، حصة الأسد. وأدار الأمير سلطان هذه الوزارة بصورة مباشرة. وحين تشعبت مسؤولياتها وزادت، عهد الى نجله الأكبر الأمير خالد بتولي شؤونها منذ سنة 1991، وتحديداً خلال عملية عاصفة الصحراء، حين تحولت المملكة إلى قاعدة للقوات الأميركية والجيوش الأجنبية والعربية التي شاركت في حرب تحرير الكويت، وتولى خالد في حينها لواء القيادة من الجانب العربي الى جانب الجنرال الأميركي نورمان شوارزكوف الذي قاد القوات الأميركية والأجنبية. والعامل الثاني هو أن الملك عبد الله أبدى ميلاً الى معاودة الأمير عبد الرحمن بن عبد العزيز ممارسة مهماته في إدارة شؤون الوزارة بعد انقطاع دام سنوات عدة بسب حرده على خلفية قرار الملك عبد الله سنة 2009 بتعيين الأمير نايف في موقع النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء. ويشغل الأمير عبد الرحمن موقع نائب وزير الدفاع منذ سنة 1983 بقرار من شقيقه الملك فهد، ولم تكن هناك خلافات ملحوظة بينه وبين الأمير سلطان أو ابنه خالد، وذلك لكون سلطان وعبد الرحمن ينحدران من أم واحدة هي حصة السديري، ويأتي ترتيب عبد الرحمن في الولادة بعد سلطان مباشرة، وهو يبلغ من العمر 82 سنة.
المشكلة الرئيسية بالنسبة إلى الملك عبد الله ليست فقط في استرضاء شقيقه عبد الرحمن، الذي أبدى عدم رضى على تجاوزه في تراتب السن وتعيين نايف الأصغر منه عمراً في ولاية العهد، بل في إعادة ترتيب وزارة الدفاع بصورة مختلفة عن الطريقة التي أدارها سلطان، وخصوصاً لجهة الفساد المستشري داخلها، وعبر عن نفسه من خلال سياسة العمولات، ومنها ما تحول إلى فضائح دولية كما هي الحال في «صفقة اليمامة» سنة 1985 التي كلفت السعودية 86 مليار دولار، وعرفت باسم صفقة العصر وبلغت عمولتها 2 مليار دولار حسب الصحافة البريطانية، التي كشفت سنة 2007 أن المفاوض الأساسي من الجانب السعودي هو نجل الأمير سلطان، الأمير بندر. ولا يقف الأمر هنا، فالسعوديون يتحدثون عن مليارات الدولارات التي تذهب للأمير سلطان وأولاده من مشتريات الأسلحة. وتؤكد مصادر سعودية أن الملك عبد الله مارس ضغوطاً منذ اعتلائه العرش سنة 2005 من أجل ضبط الإنفاق في هذا الميدان، لكنه لم يوفّق في صورة تامة، ولم يستطع أن يحدّ من نفوذ شقيقه سلطان، وتورد برقيات «ويكيليكس» أنه حاول إعفاء خالد بن سلطان من مهمة نائب وزير الدفاع في نهاية 2009 بعد فشله في محاربة الحوثيين، لكنه لم يتمكن من ذلك.
الاستحقاق الثاني هو عقد اجتماع مجلس العائلة و«هيئة البيعة» من أجل اختيار وليّ العهد، خلفاً للأمير سلطان. وهذا أول امتحان لـ«هيئة البيعة» التي أسسها الملك عبد الله سنة 2006 من أجل تلافي مطبات طريقة التداول على الحكم في السعودية التي أرساها الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود القائمة على التقادم في السن. وقد اعتبرت هذه الآلية غير متماشية مع الزمن وعاجزة عن تلبية شروط المرحلة التي تحفل بالتنافس على المواقع، الأمر الذي أثار خلافات داخل العائلة، ومن هنا أراد الملك عبد الله أن يسنّ نظاماً أساسه توافق العائلة، وعليه يُنتظر أن يعمل لأول مرة مجلس العائلة وهيئة البيعة ضمن تناسق واحد، وأي خلل أو خلاف من شأنه أن ينعكس على وفاق العائلة، ويشكل سابقة تاريخية في سياق نظام الحكم السعودي الذي قام على قاعدتين. اتخاذ القرارت بالأغلبية، واحترام تراتبية السن. ولم يخرق قانون الأخيرة إلا في حالتين. الأولى: التنازل عن الحق في العرش أو ولاية العهد. والثانية: صدور قرار عائلي بإعفاء صاحب العرش أو ولاية العهد بسبب عدم الأهلية للحكم، مثلما حصل مع الملك سعود سنة 1964.
أما الاستحقاق الثالث المطروح أمام الملك عبد الله فهو إجراء تعديل حكومي كبير، يهدف الى أمرين. الأول ملء الشواغر الوزارية التي ستنشأ من جراء رحيل سلطان وتصعيد نايف الى ولاية العهد. ويتعلق الأمر هنا بأهم وزارتين وهما الدفاع والداخلية. وإذا كان تعيين وزير دفاع جديد أمراً لا نقاش فيه، فإنه يبدو صعباً تعيين وزير داخلية في الظرف الراهن، فالأمير نايف، سواء تولى ولاية العهد أو لا، فإنه لا يبدو في وارد التخلي عن الداخلية، وترفيعه الى موقع ولي العهد لا يلزمه قانونياً بالتخلي عن الداخلية، ومثال ذلك سلطان الذي جمع بين منصبي ولي العهد والدفاع. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن وزارة الداخلية ستخرج عن سيطرة وإشراف الأمير نايف الذي عمل منذ سنوات عدة على تولية شؤون الوزارة لنجله الأمير محمد، الذي عهد إليه بملف محاربة القاعدة، ويعتبر نجاحه في هذا الميدان مصدر قوة له، يؤهله أكثر من غيره لتولي الوزارة بعد والده.
والأمر الثاني المنتظر من التعديل الوزاري هو إرضاء العديد من أمراء الصف الثاني الذين ينتظرون دورهم في الحكم منذ زمن طويل، من أمثال بندر بن سلطان وخالد بن سلطان وتركي الفيصل... الخ. فالأمير خالد يضع عينه على وزارة الدفاع خلفاً لوالده، والأمير بندر يطمح الى وزارة الداخلية انطلاقاً من موقعه الحالي كمسؤول عن شؤون الأمن القومي، والأمير تركي يتطلع الى وزارة الخارجية، خلفاً لشقيقه سعود الفيصل، الذي يعاني متاعب صحية، وسرت أنباء عن طلبه التقاعد، لكن الملك عبد الله رفض.
قرارات الملك عبد الله وخطواته في هذا الاتجاه تتطلب مقاربة مختلفة لسبب رئيسي هو أنها ربما كانت الأخيرة في فترة ولايته التي تجمع أوساط سعودية على أنها لن تطول بسبب مرضه الشديد، فهو خرج من العملية الجراحية الثانية خلال ستة أشهر، ويواصل العلاج في قصره، وهناك من يؤكد أنه يعيش في شبه غيبوبة دائمة بسب الأدوية، وتقدر أوساط سعودية مطلعة أنه لن يتمكن من استعادة قواه، بل على العكس قد يفارق الحياة في أي لحظة، إذ إن استجابته الجسدية للأدوية تبدو بطيئة، ونظراً إلى السن (88 سنة)، فإن تأثير العمليات الجراحية يمكن أن يصير عكسياً.
خطوات عبد الله حتى تكون مجدية وذات مفعول يجب أن تتسم بمزايا عدة. أولا، ينبغي أن تكون متوازنة تحفظ حقوق الجميع، وخصوصاً الأمراء من جيل الأبناء الذين يتقدمون في السن، ويشعرون بغبن حقيقي لعدم إعطائهم فرصة الوصول الى مراتب المسؤوليات العليا، وينظر هؤلاء الى أبناء عبد العزيز الذين يتداولون العرش كقطيع من الديناصورات الهرمة التي تعيش في زمن غابر، ويعتبرون أنهم أولى بقيادة المملكة لأنهم أقرب الى مزاج الأجيال الشابة التي تمثّل أكثر من 60 في المئة من المجتمع السعودي، وتحسّ أنها غير ممثلة في هيئات الحكم التي يتم تشكيلها وفق طرق بالية. وثانياً ألا تكون مؤقتة، لكي تؤسس للمرحلة المقبلة، من دون أن تترك مجالاً لفتح نزاعات بمجرد وفاته. وثالثاً، يجب أن تضع ضوابط تمنع التراجع عن خط الإصلاحات الذي سار عليه في السنوات الأخيرة، وآخرها كان إدخال المرأة الى مجلس الشورى، وإعطاء هامش من الحريات السياسية.
وفي كل الأحوال، يظل هاجس السعوديين المباشر اليوم هو صعود الأمير نايف، وإمكانية توليه العرش، ويقول مصدر سعودي إن الجو العام في السعودية مشحون بالقلق والتوتر. وهناك ترقب لما يمكن أن تؤول إليه اجتماعات مجلس العائلة وهيئة البيعة، ورغم أن الغالبية العظمى على اقتناع بأن نايف سيكون رجل المرحلة المقبلة، فإن السعوديين يحسون بأنه آن الأوان لكي يحلموا بملك آخر، سواء وصلت رياح الربيع العربي للسعودية أو لم تصل. وهناك اقتناع عام في الأوساط الداخلية والخارجية بأن المملكة في ظل تولي الأمير نايف للمسؤولية ستكون مختلفة، وأن التوتر الموجود سوف يتطور الى تذمر علني، الأمر الذي يرشح المملكة للدخول في مرحلة من الاضطرابات.



سلطان إلى مثواه الأخير

شارك في تشييع وليّ العهد السعودي، الأمير سلطان، الى جانب الملك عبد الله بن عبد العزيز، عصر أمس، عدد غفير من الشخصيات العالمية والإسلامية والعربية. وأظهرت قنوات التلفزيون الملك واضعاً كمامة، جالساً على كرسي، يحيط به إخوته من كبار السن في العائلة المالكة، والعديد من الأمراء يشاركون في الصلاة في مسجد الإمام تركي بن عبد الله. وحضر الجنازة رئيس المجلس العسكري في مصر، حسين طنطاوي، والرئيس السوداني عمر البشير وأمير قطر حمد بن خليفة وأمير الكويت صباح الأحمد ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ونائب الرئيس السوري فاروق الشرع وملك الأردن عبد الله الثاني. كما حضر شقيق ملك المغرب ورئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، إضافة الى نائب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، ووزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي.
(أ ف ب)