بقي مكان العقيد معمر القذافي مجهولاً منذ سقوط العاصمة طرابلس في 23 آب الماضي. واختلفت الأخبار بشأن الجهة التي قصدها بعد دخول قوات المجلس الانتقالي مقره في باب العزيزية، فمنها من جزم بتوجهه الى سبها في الصحراء، وبعضها تكهن بهروبه الى إحدى دول الجوار الأفريقي النيجر او التشاد، ليعيد تنظيم صفوفه كي يخوض حرب عصابات طويلة الأمد، وتحدثت أنباء أخرى عن لجوئه الى حمى قبائل الطوارق على الحدود الجزائرية. وظل احتمال لجوئه الى سرت ضعيفاً جداً، بالنظر إلى أنها مستهدفة ومكشوفة، وسيأتي عليها الدور، بعد ما صارت قوات المجلس الانتقالي تتقدم لتطهر منطقة تلو الأخرى من كتائب القذافي.تطورات الشهرين الأخيرين، وعنف المعارك على جبهتي سرت وبني وليد، أوحت بأن القذافي يتحصن في مسقط رأسه، وأعطى هو أكثر من إشارة الى أنه موجود في مكان قريب من جبهات القتال. وفي رسائل صوتية بثها تلفزيون «الرأي» من دمشق، أكد القذافي أنه باق في ليبيا، وأنه سيقاتل حتى الرمق الأخير، ولن يستسلم، وهو يفضل الشهادة على رفع الراية البيضاء، وهو ما حصل يوم أمس عندما قتل في مسقط رأسه سرت.
خيار القذافي بالقتال حتى الموت كان نابعاً عن وعي منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها قوات الأطلسي الحرب الى جانب مقاتلي المجلس الانتقالي نهاية آذار الماضي، وتؤكد أوساط القذافي أن حساباته حتى سقوط طرابلس كانت قائمة على استحالة انهزام قواته التي كانت متفوقة على مقاتلي المجلس الانتقالي على الأرض، فهو تمكن من أن يخوض معركته وفق تكتيك جعل طيران الأطلسي عديم الفعالية في المعركة، لذا قرر الأطلسي أن يحوك خيوط لعبة إسقاط طرابلس لينقل المعركة الى مستوى آخر.
منذ سقوط طرابلس تغير الاتجاه العام للمعركة، وصار يسير وفق احتمالين متوازيين. الأول هو أن يهرب القذافي وأنصاره الأساسيون الى مكان ناء في الصحراء، ومن هناك يعيد تنظيم صفوفه بالمال وعلى أساس العصبية القبلية بعد هدنة تستمر عدة أشهر، لكن على أن يستمر في هذه الأثناء في شن حرب عصابات من خلال بعض الجيوب التي تركها خلفه، مثلما جرى في طرابلس منذ عدة أيام، عندما ظهرت مجموعات مسلحة تابعة له في منطقة بني سليم. والثاني هو أن يختار مسقط رأسه سرت قلعة أخيرة يتحصن فيها، ويقاتل منها بانتظار المدد الذي سيأتيه من بعض القبائل الصحراوية. وتبين أنه اختار الحل الثاني بالاعتماد على ما بقي معه من قوات، وما يتمتع به من تأييد في وسط القبائل في بني وليد وسرت، لكنه فقد هذه الورقة خلال الأسبوعين الأخيرين، بسبب ضراوة القصف على سرت وبني وليد، الى حد أدى الى تدمير المدينتين بالكامل، ونزوح السكان عنهما في صورة تامة. وظهر من خلال معارك الأيام الثلاثة الأخيرة أنه لم يبق الى جانب القذافي سوى أعداد قليلة من المقاتلين، ورغم أن الطريق كانت مفتوحة أمامه للهرب في اتجاه الصحراء، فإن المعلومات التي أعلنها رئيس المجلس العسكري لطرابلس عبد الحكيم بلحاج أفادت أنه كان قد اختار أمس التوجه الى مصراته التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي، في خطوة كان الواضح منها أنه رفض حتى اللحظة الأخيرة الهرب، واختار الانتحار.
تمكن القذافي من الصمود في طرابلس ستة أشهر. فالانتفاضة التي انطلقت شرارتها الأولى في 17 شباط الماضي كان يراد لها أن تنتقل بسرعة إلى العاصمة الليبية، لتجبر العقيد على الرحيل. وبدا خلال الأيام الأولى أن هذا الاحتمال وارد، وأن هناك خطاً مباشراً ستأخذه الأحداث وفق ما سارت عليه الثورتان الشعبيتان في تونس ومصر. ومن خلال ردود فعل القذافي المرتبكة، كاد هذا السيناريو أن يتحقق خلال الأسبوعين الأولين. وحينما اشتدت الهبة الشعبية في كل المناطق، باستثناء طرابلس، تقدمت العديد من الأطراف بوساطات ومبادرات كان هدفها تجنيب القذافي الحصار في العاصمة، وجرت مفاوضات من أجل تأمين خروجه، لكن ابن الخيمة القادم من الصحراء عكس اتجاه الأحداث، واستعاد المبادرة بسرعة. استوعب الصدمة الأولى، وشرع في شنّ هجوم مضاد، ونقل المعركة الى كل جزء من ليبيا، عدا طرابلس. وقبل أن يتدخل الحلف الأطلسي في نهاية آذار، كانت كتائب القذافي تتقدم نحو عاصمة الشرق بنغازي، التي سقطت بأيدي خصومه منذ الأسبوع الأول، وتحولت الى مركز للمعارضة.
وفي الوقت الذي كان فيه القذافي يبدو أنه على وشك الهزيمة، كان يلعب لعبة متعددة الأوجه، مستفيداً من قدرة كبيرة على المناورة، ومن خلاصات دروس استوعبها، وهي تتوزع بين حروب خاضها في الداخل، ونزاعات جرت في جواره في تشاد والسودان وبلدان أفريقية أخرى مثل الكونغو.
أراد العقيد أن يُسقط عن الانتفاضة الليبية صفة الحركة الشعبية، وأن يحولها إلى حالة تشادية سمتها الرئيسية انشقاق في أوساط الحكم، وتمرد مسؤولين سابقين، ولا سيما أن خصومه الفعليين كانوا من بين أقرب أعوانه، من أمثال وزير العدل مصطفى عبد الجليل، ووزير الداخلية عبد الفتاح يونس، ورئيس المجلس التنفيذي محمود عبد الجليل، وقامت لعبته على عدة ركائز؛ الأولى تشتيت شمل خصومه، وهنا لعب على استنفار كافة العصبيات، وخصوصاً منها إحياء نغمة التقسيم بين شرق وغرب، وقبائل موالية ومنشقة، وتمكن من أن يحدث شرخاً كبيراً ساعد على تحييد قسم كبير من القبائل التي سارع بعضها إلى نجدته، وخصوصاً من حماه القبلي في سرت وسبها، لكنه لم يتمكن من اختراق فعلي في الشرق، يجعل منه محل إجماع من جديد، ويظهر خصومه على أنهم حالة هجينة قابلة لأن تخبو أمام قدرة العقيد على خلط الأوراق.
الركيزة الثانية هي محاولة تجييش الليبيين من حوله بوصفه شخصية وطنية فوق كافة الشبهات، ويرمز الى الاستقلالية، ويمثّل على الدوام ضمانة لبقاء ليبيا عامل استقرار داخلي وإقليمي ودولي، فنسب إلى خصومه أنهم خليط من اتجاهات إسلامية متطرفة، وظل يحذر على مدى أسابيع من اختراق تنظيم القاعدة للانتفاضة الشعبية، ونجح العقيد في جعل هذه الفزاعة قضية عامة. حتى إن مخاوف واسعة سرت لدى أطراف دولية وعربية من أن يكون بديل القذافي قوى إسلامية متطرفة، الأمر الذي استدعى تخفيف منسوب الحملة العسكرية الأطلسية ضد قواته، التي تمكّنت بفضل ذلك من الخروج من منطقة الغرب، لتستعيد مواقع أساسية في جهات أخرى في الوسط والشرق. وبينما كانت المواجهات تدور في شهر آذار على بعد 100 كيلومتر عن طرابلس، انتقلت بسرعة الى محيط بنغازي، التي كانت وشيكة السقوط بيده. وفي هذه الأثناء، كان الغربيون يدرسون على الأرض تركيبة المقاتلين وتوجهاتهم، واضطروا إلى أن يدربوا مقاتلين جدداً، وأن يعيدوا تأهيل قوى المعارضة السابقة من أجل خلق توازن يحرم الإسلاميين شرف تصدّر المعركة وحصاد مجد إسقاط العقيد.
أما الركيزة الثالثة، فهي أن العقيد قاد المعركة وفي ذهنه فكرة واحدة، وهي أنه الرقم الصعب في المعادلة، ومهما بلغ خصومه من قوة ودعم أطلسي يظل هو المقرر لما يمكن أن تكون عليه صيغة ليبيا المستقبل. ومن أجل ذلك استنجد بوساطات من كافة الاتجاهات، تركية، روسية، أفريقية، عربية، فرنسية.
وفي الوقت الذي كان فيه يقاتل ويصمد ويحقق انتصارات ميدانية، كانت طرابلس وجربة التونسية وباريس، وعواصم أفريقية، تتداول مبادرات بشأن تسوية. وكانت الأسئلة المطروحة طيلة الأشهر الثلاثة التي سبقت سقوط طرابلس تدور حول تسوية بوجود العقيد أو من دونه، ببقاء العقيد في ليبيا من دون صلاحيات أو برحيله نهائياً، بوجود أولاده كشركاء في الحكم أو من دون أي فرد من أسرته؟ كان العقيد يحرك أحجار الشطرنج من الخيمة وهو يعمل ميدانياً بكل ما أوتي من قوة، وكان رهانه الرئيسي على تعب خصومه وانقساماتهم وعدم حرفيتهم على المستويين العسكري والسياسي، وتراخي الحملة الأطلسية التي كلفت غالياً، وصارت حماسة بعض أطرافها تفتر.
والركيزة الرابعة في استراتيجية العقيد هي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه. ولم يكذّب القذافي وعده بأنه سيقاتل «شبر شبر، وبيت بيت، وزنقة وزنقة». ويقول خبير من الأمم المتحدة في الشؤون الإنسانية رافق الوسيط الدولي عبد الإله الخطيب في عدة زيارات إلى ليبيا، إن حجم الدمار الذي لحق بليبيا يفوق الوصف، فثمة مدن ومنشآت وبنى تحتية دمرت إلى حدود 80 في المئة، ولم يراع العقيد أي اعتبار هنا، كأن لسان حاله يقول سأترك ليبيا بعدي كومة من الأحجار.
ركن العقيد إلى وهم إثارة الرعب من حجم الدمار الذي ستخلفه الحرب، وكان يظن أن هذه الورقة ستتحول إلى عنصر ضغط لمصلحته، وخصوصاً إلحاق الضرر بالمنشآت النفطية، لكن القوى الأطلسية كانت تنظر إلى هذا السلوك الانتحاري نظرة مختلفة. ذلك أن مئات الشركات الأميركية والأوروبية والروسية والتركية والخليجية كانت تضغط لتكثيف وتيرة الحرب، في الوقت الذي كانت تستعد فيه لتوقيع عقود إعادة الإعمار. وفي هذه الأجواء جرى تداول معلومات على نطاق واسع عن اتفاقات بين بعض الدول الغربية والمجلس الانتقالي على حصص من النفط الليبي مقابل إسقاط العقيد.
ورغم اختلاف الحيثيات ثمة من يقارن ليبيا بعد العقيد بالعراق بعد صدام حسين، ذلك أن الليبيين لن يكونوا أصحاب القرار، وسيجدون أنفسهم مكبّلين بالتزامات ثقيلة، ولن تكون لديهم قدرة على التفلّت منها في الوقت الحاضر. فالنصر الذي تحقق على العقيد هو من صنع الأطلسي أولاً، ولن يمرّ ذلك من دون تسديد الثمن لكل من أسهم في الحملتين السياسية والعسكرية.
ومن جهة أخرى، يسود أوساط خبراء غربيين اعتقادٌ بأن المسألة الأمنية سوف تحتل مكانة أساسية في ليبيا المستقبل. ورغم أن الأطلسي أطلق على حملته اسم «فجر الأوديسة» تيمناً برجوع المحاربين الإغريق إلى «ايثاكا» بعد انتصار طروادة، فليس هناك إشارات إلى عودة الأطلسي إلى قواعده بعد مقتل العقيد، وهناك سيناريوات يجري تداولها في الدوائر الأمنية الأطلسية، منها تحويل ليبيا إلى قاعدة أطلسية لعموم أفريقيا، وخصوصاً لجهة الحرب على الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا، التي شهدت خلال العامين الأخيرين ولادة تشكيلات قتالية لتنظيم القاعدة في موريتانيا ومالي وبعض بلدان الصحراء الأفريقية مثل النيجر. وما يزيد من رجحان هذا السيناريو هو أن القذافي شارك بفعالية خلال السنوات الأخيرة التي تلت تنازله عن البرنامج النووي في الحملة الغربية ضد الإرهاب، وجعل من ليبيا سدّاً منيعاً في وجه الهجرة الأفريقية نحو أوروبا.
وفي كل الأحوال فالقذافي هو الرئيس العربي الثالث الذي أطاحته موجة الانتفاضات الشعبية التي بدأت من تونس، لكن نهايته اختلفت عن نهاية نظيريه التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، وذلك لثلاثة أسباب. الأول أنها نهاية دموية توجت بالقتل. والثاني أنها جرت بتدخل غربي تحت غطاء محلي وعربي ودولي، وبموافقة الأمم المتحدة. والثالث أنها أدت الى خسائر بشرية ومادية كبيرة. وبالتالي، فإن النتائج في ليبيا ستكون ماثلة للعيان في العالم العربي، وخصوصاً في اليمن وسوريا، حيث يشهد البلدان حراكاً شعبياً تلوّن بالدم، في الوقت الذي تزداد فيه شهية القوى الأجنبية إلى التدخل، وسط دعوات من أوساط محلية للحماية الدولية.