الديكتاتور من سردابه لا يزال مثيراً. لا يزال يقاوم اختفاء تلو اختفاء. لقد ظهرت جثّته على مراحل، وصورها لم تكن مؤكدة، فمعمر القذافي سرمدي مثل الحاكم بأمر الله عندما اختفى في عز الدولة الفاطمية، ولا تزال طائفة كاملة تنتظر عودته. الحاكم بأمره اختفى، لكن لا يمكن التأكد أنه اختفاء أخير. الطائفة المنتظرة تمنحه حياة جديدة. هي توقظ الماضي المرتبك حين كان الديكتاتور دواءً للاستعمار والامبريالية والعدو الاجنبي. وبعدما أصبح أخطر من كل هؤلاء، وتحالف مع كل هؤلاء، لا يزال هناك من يرى في موته والثورة والتخلُّص من الحكام بأمرهم جميعاً، مجرد مؤامرة. جثّة القذافي طافت من الفضائيات إلى السوق التجاري. ملايين عاشوا تحت رحمته وتسابقوا إلى شراء النظرة الأخيرة، وملايين آخرون اشتروا بضاعته ولا يزالون في صدمة عدم التصديق. فالرحيل مؤامرة، والاستمرار مؤامرة. القذافي تركها صحراء، وأراد الاختفاء بين متاهاتها وصنع أسطورته بعد ٤٢ سنة من «ثورته». إنها ثورة جديدة تستحق الاحتفال بقدرات الشعوب المكسورة في خلخلة الديكتاتور، حتى ولو كان بكل هذا العنف والوحشية والكوميديا. كوميديا الخروج من التاريخ كانت أحد أسلحة القذافي. كيف تواجه ديكتاتوراً بكاريزما الجنون الكامل؟ كيف تواجه قاتلاً يضحكك؟ الديكتاتور وجه قاس وعنيف يخفي مأساة، لكن القذافي جمع المأساة والملهاة وغطاهما بعنف وقسوة لا مانع لها ولا حدود ولا حافة. إنها قسوة بلا نهاية.
كان القذّافي ينظر إلى أعلى دائماً. ينتظر شيئاً ما لم يعلن تفاصيله يوماً، ولم يكشف طبيعة ما ينتظره. إنها سمات زعيم خارج الزمن. الأدق أنه عابر تواريخ خطيرة بالنسبة إلى بلاده وبالنسبة إلى العالم العربي، فهو ضابط شاب قاد ثورة على الملك، ووضع مقعده بجوار زعماء التحرير وبناة الدول الحديثة. كان وقتها مزيجاً من البدوي المارق على القبيلة، والسياسي المنفلت من قواعد البروتوكلات. ظلت هذه الصفات موجودة طوال ٤٠ سنة، وأوقف فيها توصيفاته عند اللحظة الاولى التي اعتلى فيها العقيد «ثورة الفاتح» من سبتمبر. العقيد تحدّى الزمن وصنع له وللثورة حضوراً سرمدياً لا ينتهي بمهمة، ولا يتحدد بمناصب، فهو ليس رئيساً، كما أن دولته لا تخضع للتوصيفات المتعارف عليها؛ لا هي ملكية ولا جمهورية، إنها «جماهيرية» حكمت بالكتاب الأخضر، أو «النظرية العالمية الثالثة» التي كانت خلطة من أفكار قومية وإنسانوية ومثالية. يتعالى العقيد فوق اليومي، لكنه غارق في اليومي عبر شبكة «اللجان الثورية» التي سلمها الحكم الفعلي بوصفها اداة الثورة الدائمة. التعالي يتيح للقذافي أن يدير ليبيا ولا يديرها في الوقت نفسه بحسب نظريته التي قيل إن عدداً من المفكرين العرب المشهورين شاركوا في صوغها وتدبيجها لتصبح شبهاً لوحي نبوة لا نظرية سياسية. القذافي متحمس دائم في كل معاركه. يبدو نزِقاً أحياناً وخارج بروتوكلات السياسة وأقرب إلى الغاوين أو الممسوسين بغرام بعيد. من اليوم الثاني لانتصار عملية الاستيلاء على الحكم، ضرب العقيد الرقم القياسي في مشاريع الوحدة، وكأنه كان يبحث عن اكتمال لم يتحقق. لم يدخل تاريخ السياسة، لكنه صنع تاريخاً لليأس من العروبة ومن زعماء مفتونين بفكرة «المخلص» و«المنقذ»، ويخفون تحت ملابسهم صورة هتلر بدون قوته التي تحدّى بها العالم. تصوّر القذافي أن بلاده عظمى لمجرد أنها تلقّت ضربة من سلاح الجو الأميركي عام 1986. تخريجة سياسية جديدة تماماً لآخر سلالة الحكام المبعوثين من العناية لتحويل دولهم إلى «قوى عظمى» بالتوحُّد مع ذات الزعيم المتعالية المفارقة للزمن. فارق العقيد زمنه الخاص، بينما بلاده في زمن معاناة من ثقل مهامه النبوية على بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. إنها الموجة الأخيرة من أناقته التي بدت تقليدية مثل نجوم السينما، وانتهت الى مفارقة اللحظة والذوق الراهن. إنها موجات توازن مع تحولاته السياسية من «مموِّل» الثورات في كل مكان، إلى مرشد لمخابئ الاسلحة المحرمة دولياً عربون صداقة وإنهاء عداوة مع الغرب وأميركا. القذّافي نوع فريد بين الزعماء. حطّم سنوات الخلود والقدرة على طحن كل المخالفين تحت أوتاد خيمته. ملك الفكاهة السياسية يداعب وقار الحكام الآخرين بطرافة تجعله كمن يلعب دوراً على منصة مفتوحة ودائمة. أصبح وحده مصدر جذب سياسي لليبيا بعدما أنهكت مغامرات العقيد السياسية عوائد آبار النفط. الشاب النزق اختفى باحثاً عن كاميرا لاحقت جثته التي لم تفقد جاذبية تمتع بها بعدما صار عجوزاً، ينظر إلى العُلى بانتظار الوحي. لكنّ الكاميرا تلتقط استعراضاته المثيرة، وتبثها فقرات من خارج التاريخ.
جثّته دخلت التاريخ. كشفت عن وحشية ورغبة في الانتقام من ديكتاتور تفنّن في صناعة العجز، فانتقم العاجزون من جثته وبقاياه. ألوان الجثة ستخلَّد ببقع الدم على شاكلة بثّ حيّ على الشاشات كأنها لوحة أو ملصق صمّمه الإيقاع التلقائي للثورة. اختفى القذافي قبل استكمال خياله الجامح بإبادة شعبه، ليبقى هو وحده الدولة. ديكتاتور وصل بالديكتاتورية إلى حافتها المضحكة والموجعة معاً. أسطورة القذافي تفوق الحاكم بأمر الله، وتصنع استلابها الخاص جداً. كيف يمكن التخلص من ديكتاتور برعاية غربية، وهو المحمي من الغرب المعادي له؟ كيف يترك الغرب ليبيا للإسلاميين، الناجين من مذبحة أودت بالبلاد كلها إلى متاهات صحراوية؟
من سيخرج من السراديب غير القذافي، أو بعده؟ هل كان يهندس خطة هروبه عبر هذه الحفر؟ هل حفرها قبل صدام حسين، أم هي هندسة الديكتاتور الخالدة؟ الديكتاتور صنع الدولة على مقاسه، وجثته الآن في السوق التجاري معروضة لمن يقدر أكثر على الانتقام. السرداب لم يُطل عمر الديكتاتور، لكنه بعث رسالة إلى الحكام بأمرهم أو المنتظرين لأساطير تعيد الماضي بعد أفوله. تقول الرسالة إنّ النهاية قريبة ما دمت صنعت بينك وبين شعبك دماً، وبنيتَ أسواراً بينهم وبين الزمن. القذافي مبعوث من خارج الزمن ينطلق إلى زمنه الخاص، مثيراً رعب المتحصّنين بقلاع الخطابات المناهضة لامبريالية هم مندوبوها في قهر الشعوب.