السؤال عن دوافع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لإبرام صفقة الأسرى، سيظل يدور في الأوساط الإسرائيلية، غير أن «بيبي» له أجوبة عن التنازلات التي قدمها والمكاسب التي سيجنيهاكانت قضية شاليط من الملفات المفتوحة التي لم يتحمس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتسلمها من سلفه إيهود أولمرت. في حينه، وقبيل نهاية ولايته، سعى أولمرت إلى إنهاء الصفقة، وكان موقف نتنياهو الموافقة الضمنية على كل ما يتوصل إليه أولمرت. لا لأن الاستحقاق من النوع «الخسّير» شعبياً وسياسياً، بل، بالدرجة الأولى، لأن الصقورية الأمنية والسياسية التي كان نتنياهو يحرص على الاتّسام بها كان من شأنها أن تمثّل عقبةً اعتبارية أمامه للمضي قدماً في صفقةٍ يبدو معها كأنه تنازل «للإرهاب» وخضع لابتزازه.
ليس صعباً العثور في التاريخ السياسي لنتنياهو على سوابق تتماهى مع موقفه الدافع، أمس، باتجاه إبرام صفقة تبادل أسرى مع «حماس»؛ فهو كان قد أيّد، بصفته وزيراً للمال في حكومة أرييل شارون، صفقة مشابهة مع حزب الله عام 2004. كذلك وافق، إبان رئاسته للوزراء عام 1997، على إطلاق الشيخ أحمد ياسين مقابل ضابطين من الموساد اعتقلا في الأردن أثناء محاولة اغتيال خالد مشعل. إلا أن السياق العام لسيرة نتنياهو السياسية يبرز فيه ميله الدائم إلى التموضع في طليعة معسكر اليمين، منظّراً إيديولوجياً في مكافحة «الإرهاب»، قبل أن يكون زعيماً سياسياً. هكذا، على الأقل، بدأ حياته السياسية عام 1976، حين كان مديراً لمعهد يوناثان المتخصص في بحث سبل مكافحة الإرهاب، وعكف على تأليف سلسلة من الكتب عالج فيها المسألة.
وللمفارقة، كان الموقف السياسي الأول الذي سجله نتنياهو وعُدّ ترجمة عمليةً لجزء من نظرياته هو ذاك الذي اعترض فيه على «صفقة جبريل» عام 1985. آنذاك، بعث نتنياهو، الذي كان سفيراً لتل أبيب في الأمم المتحدة، برسالة حادة إلى وزير الخارجية، إسحاق شامير، أبدى فيها اعتراضه الحازم على الصفقة. في كتابه الأشهر، «مكان بين الأمم » (1993)، أعاد نتنياهو (زعيم الليكود آنذاك) تأصيل موقفه من صفقة جبريل: «لقد كنت مقتنعاً بأن تحرير ألف مخرب سيدخلون إلى مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة وسيؤدون إلى تصعيد فظيع للعنف، وذلك لأن هؤلاء الإرهابيين سيُستقبلون كأبطال وكنموذج للاحتذاء من قبل الشباب الفلسطيني، والنتائج لن تتأخر في الوصول».
من المؤكد أن نتنياهو تغير بعد خمسة عشر عاماً على كتابه. إلا أنه ليس موضوعياً أن نفترض أن استنتاجاته في حينه لم تعد، من وجهة نظره، نافذة الآن؛ فالأسرى الفلسطينيون الألف، الذين سيطلق سراحهم في صفقة شاليط، سيكون لهم المفعول نفسه الذي تنبأ به قبل عقد ونصف. هم «إرهابيون»، بالنسبة إلى نتنياهو، وسيُستقبَلون كأبطال في الشارع الفلسطيني، وسيكونون قدوة لغيرهم من الشباب الصاعد. بل إن ثمة متغيراً أكثر سلبية على هذا الصعيد: تجري الصفقة في ظل انقسام فلسطيني جذري بين مشروع المقاومة ومشروع المساومة، وهي تمثّل مردوداً استراتيجياً صافياً لمصلحة المشروع الأول.
ما الذي دفع نتنياهو إذاً إلى الخروج من نفسه وتوقيع صفقةٍ أقل ما يقال فيها أنها تعد سابقةً تجاوزت كل الأرقام القياسية واجتيزت فيها الخطوط الحمراء المحددة إسرائيلياً. نتنياهو نفسه، الذي يدرك أنه سيكون مطالباً بتقديم إيضاح مقنع لهذا التحول في مواقفه، بادر إلى إعطاء الجواب عن هذا التساؤل. ربط الأمر بـ«العواصف التي تضرب الشرق الأوسط»، وتحدث عن «نافذة فرص يمكن أن تُغلق... وقد لا نجد بعدها من نفاوضه». تحذير ضمني من تكرار حادثة رون أراد.
يصعب الاقتناع بمنطقية هذا التعليل. على كل حال، هو لم يُقنع أياً من المعلقين الإسرائيليين. فلا الربيع العربي يهدد غزة، ولا حركة حماس في وارد التفريط بالكنز الذي تمتلكه وأثبتت كفاءة استثنائية للاحتفاظ به.
يمكن البحث عن الأسباب الحقيقية في مكان آخر. ويمكن البدء من الوضع الداخلي. فإنجاز صفقة أسرى لاستعادة جندي، تحوّل إلى قضية إجماع. فغالبية ساحقة من الإسرائيليين تؤيد إبرام صفقة تبادل لاستعادة شاليط، ولو كان الثمن باهظاً. ونتنياهو يحسن قطف هذه الشعبية التي ستظل محفوظة في أرشيفه. في السياق نفسه، يجدر الالتفات إلى جدول الأعمال السياسي والإعلامي في إسرائيل. من جهة، الحراك الاجتماعي الذي ينذر بعودة محتملة بعد خيبة تقرير ترختنبرغ، ومن جهة أخرى الجمود الذي يلف العملية السياسية ويضع الحكومة الإسرائيلية في زاوية حرجة على المستويين الداخلي والدولي. في مواجهة ذلك، من شأن خطة بحجم صفقة التبادل أن تقلب قائمة الأولويات رأساً على عقب وتتيح لحكومة نتنياهو التمتع بظرفيةِ سماحٍ سياسية (داخلياً ودولياً) تمكنها من التقاط أنفاسها رهاناً على عوامل مستجدة يمكن أن تساعد في وقت لاحق.
بعد ذلك، يمكن الانتقال إلى البعد الإقليمي، والكلمة المفتاحية هنا هي: مصر. فلا مبالغة في الاستنتاج أننا كنا أمام نوع من تعويم العلاقة مع الحليف القديم وتقديم نموذج للتعاون الممكن في ملفات تخدم الأطراف كافة، بما فيها الطرف الفلسطيني ذو الحساسية الخاصة لدى الرأي العام المصري. من وجهة نظر نتنياهو، ليس حدث اقتحام السفارة هو الذي ينبغي أن يتغلغل إلى الوعي الشعبي المتكون في مصر وخارجها، بل حدث استضافة مصر لعملية تبادل أسرى إسرائيل والشعب الفلسطيني بما تعكسه من تكريس لجدوى العلاقة بين تل أبيب والقاهرة. تذكير بأن اسم عملية اختطاف شاليط كان «الوهم المتبدد».