باريس | «إلى أين تريدين الذهاب سيدتي؟ إلى غزة أم إلى تل أبيب؟»؛ قد يبدو السؤال مقتطفاً من حوار مسرح عبثي، لكنه طرح حقاً من قبل شرطي فرنسي يوم الخميس 13 آب (أول من أمس) على مواطنة تريد النزول إلى ضفاف نهر السين. فقد كانت مدينة الأنوار طوال ساعات مسرحاً مصغراً «للصراع الإسرائيلي الفلسطيني»، وذلك بعدما اعتزمت بلدية باريس استضافة مدينة تل أبيب في تظاهرة تحت عنوان «تل أبيب على نهر السين»، قوبلت بتظاهرة «شاطئ غزة» المناهضة.
لم تشأ بلدية باريس في بادئ الأمر الترويج للحدث خوفاً، بلا شك، من أن تؤول الأمور إلى جدل مثير، بل ولم يكن الاحتفال مذكوراً على موقع البلدية الإلكتروني المخصص لحدث «شواطئ باريس»، والمتمثل ككل سنة في تهيئة ضفاف نهر السين بالرمال والألعاب، حتى تصبح بمثابة شاطئ يحلو لسكان العاصمة الفرنسية التمشي عليه أو أخذ قسط من الراحة بعيداً عن ضوضاء المدينة.
لكن أنصار القضية الفلسطينية في باريس ــ من أحزاب أقصى اليسار والجمعيات المساندة لحقوق الشعب الفلسطيني ــ رصدوا الحدث على أحد المواقع الإسرائيلية، ومن هنا انطلقت حرب إعلامية عرفت بداياتها على الشبكات الاجتماعية لتصل إلى أكبر الصحف ووسائل الإعلام الفرنسية. فبعدما تبادل أنصار ومناهضو حدث «تل أبيب على نهر السين» التغريدات على موقع «تويتر» (أكثر من 40 ألف تغريدة نشرت حول هذا الموضوع)، قامت رئيسة بلدية العاصمة الفرنسية، آن هيدالغو، بنشر مقال رأي في صحيفة «لوموند» تحت عنوان «لماذا نستقبل تل أبيب في شواطئ باريس؟». وقد وصفت هيدالغو هذه الفكرة بالـ«عادية» نظراً إلى أن باريس تستقبل مدينة ساحلية كل صيف، فلمَ لا تل أبيب (؟!)، والحال أنها تشترك مع باريس في تشجيعها للثقافة وللتكنولوجيا الحديثة.

لم تشأ بلدية باريس في بادئ الأمر الترويج لحدث «استضافة» تل أبيب

وأضافت هيدالغو إن تل أبيب مدينة «حداثية» وجب استثناؤها من الجدل المستمر حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ وكأنها ليست عاصمة إسرائيل ولا مقر حكومتها، بل وكأن حدث «تل أبيب على نهر السين» لم ينظم بمشاركة المكتب السياحي الإسرائيلي ولا بمساندة جمعيات فرنسية متطرفة تشجع سياسة إسرائيل الاستعمارية، كما رد عليها الناشطون المساندون للقضية الفلسطينية.
ويجب التذكير هنا بأن استقبال تل أبيب ليس أول مبادرة من قبل آن هيدالغو لتلميع صورة الدولة العبرية، ففي 11 أيار الماضي، خلال زيارتها لإسرائيل، أهدت هيدالغو ميدالية مدينة باريس لشمعون بيريس، الذي وصفته بـ«رجل السلام»، معبرة عن شعورها بالـ«فرح والفخر» في هذه المناسبة.
وهيدالغو هنا ليست إلا في تواصل مع خط حزبها، إذ إن الحزب الاشتراكي الفرنسي كان عبر التاريخ في الصفوف الأمامية لمساندي الدولة العبرية (أول زيارة لرئيس فرنسي لإسرائيل كانت تلك التي أداها فرانسوا ميتران في آذار 1982 بعد فوزه مرشحاً عن الحزب الاشتراكي في انتخابات 1981). ولا يزال، كما أثبتت ذلك تداعيات حرب غزة في السنة الماضية على السياسة الفرنسية، إذ مُنع عدد من المسيرات المساندة لأهل غزة، بينما كان رئيس الحكومة، مانويل فالس، يتوعّد «أعداء السامية» ــ لمناسبة إحياء ذكرى غارة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، في تموز 2014 ــ الذين «يخفون كرههم لليهود وراء عداء زائف للصهيونية»، في تلميح واضح إلى أنصار القضية الفلسطينية، حتى وإن كان من بينهم جمعيات مثل «الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام» الذي ينشط ضد استعمار الأراضي الفلسطينية ومن أجل الاعتراف بدولة فلسطين وبحقوق شعبها.
صباح يوم الخميس، كان حضور الشرطة والصحافيين على ضفاف نهر السين أكثر من حضور أحباء تل أبيب، فقد حرصت الحكومة الفرنسية على نشر 500 شرطي ــ والحال أن البلاد تعيش تحت نظام أمن قومي منذ الهجمات الإرهابية بباريس في كانون الثاني 2015 ــ حرصاً على سلامة المشاركين وخوفاً من وقوع اشتباكات بعدما دعت أحزاب أقصى اليسار والجمعيات المساندة لفلسطين إلى تنظيم حدث «شاطئ غزة» ــ كناية عن مقتل أطفال غزة السنة الماضية وهم يلعبون على شاطئ البحر ــ كرد عما اعتبروه استفزازاً من طرف بلدية باريس. وقد ابتسم الكثيرون لهذا الانتشار الأمني الواسع، إذ صار النزول إلى ضفاف السين يشترط عبور «حاجز» والخضوع لتفتيش، وكأن بلدية باريس أذعنت لمحاكاة الواقع!
وإن كان احتفال باريس بتل أبيب، برغم كل هذه الاعتراضات، غير بعيد عن إيقاع الدبكة الفلسطينية، فإن الناشط اليساري والباحث الجامعي الفرنسي، جوليان سالنغ، لاحظ أن الحدث تحوّل من أمر شبه عادي إلى جدل وجب على الإعلام الفرنسي التطرق إليه، في بلد اعتاد للأسف خلط مفهوم مناهضة الصهيونية بما يسمى معاداة السامية ــ أي كره اليهود.