دمشق | لم تعد الجلسة في أحد مقاهي دمشق كما كانت قبل ستة أشهر، ولا يكتفي المجتمعون في هذه الأيام بـ «لعبة ورق» أو «طاولة زهر»، فقد تحولت لقاءاتهم كأحجار هذه الطاولة، كل شخص له لون، محاولاً أن يسجل نقاطاً لدى الآخر. كانت السياسة في السابق بعيدة عن طاولات المقهى إلا في طاولة معينة يجتمع عليها بعض المثقفين، تعلو أصوات الناس في الحديث عن مختلف المواضيع إلا في السياسة، لأنه بكل بساطة لـ «الجدران آذان»، أما الآن، فارتفع صوت السياسة ليس لأنه لم يعد هناك آذان، بل ربما لأنه سقطت بعض الجدران من حواجز الخوف. الصورة التي تتكون في هذا المقهى منطقية وطبيعية، لكن حين تقلب الطاولات ويرتفع الصراخ ندرك أننا دخلنا في لعبة العنف، التي تشوه التغيير الحاصل في هذه الصورة.طوال السنين الماضية كان الجو العام هو الابتعاد عن الحديث في السياسة الداخلية للبلاد، على الرغم من الحراك الذي كانت تقوم به أحزاب وشخصيات معارضة، هذا ما جعل من البيئة العامة بعيدة عن هذا الحوار. المسؤول عن ذلك في جزء كبير منه هو الحكومة السورية، لكونها لم تفسح المجال للتعددية السياسية، ولم تُعط مساحات للحوار، كما يتحمل المجتمع جزءاً أيضاً من خلال اختياره أن يبتعد عن الحوار السياسي، وبقي هناك قسم يناضل في هذه المساحة الضيقة، ويتذرع الممتنعون عن التحرك بالضغوط الأمنية التي تمارسها الاستخبارات لمنعهم من ذلك.
فتح الحوار الآن في سوريا لعدة أسباب، ليس فقط حوار المؤتمرات الذي تنظمه الحكومة، أو لقاءات المعارضة، لقد أصبح الحوار مفتوحاً بين أبناء المجتمع في حياتهم اليومية، وكانت إحدى نتائج هذا الحوار استخدام لغة العنف. لم يعتد المواطن السوري أن يشاهد على الشاشة الرسمية حواراً يجمع بين طرفين مختلفين من بلده، فهو اعتاد هذا المشهد في القنوات اللبنانية والجزيرة والعربية، وبالتالي لم يألف أن يخوض نقاشاً مع أي مواطن مختلف معه في الرأي، ما يجعله غير مهيأ لفكرة تقبل الآخر مهما كانت أفكاره، والإصغاء إلى الحديث، لكن الغضب والتسرع في الحكم على المختلف عنه جعلاه يولّد رد فعل سلبياً بالكلام أو الجسد.
يُولد العنف هنا من فكرة أن كل مختلف عني خائن، ليدفع الجميع إلى دائرة خطيرة بتشريع استخدام العنف، لأن هذا الجالس أمامي مندس أو شبيح، هذه الكلمات تشتعل عنفاً في حروفها، ولم يعد هناك يساري ويميني وناصري وقومي، إننا نتجه نحو دائرة إلغاء الاختلاف، والتنوع الموجود في الحياة السورية، وجعلناه مقتصراً على لونين الساحة مفتوحة أمامهما للصراع باستخدام كافة الوسائل.
تنوعت وسائل العنف من قبل كافة الأطراف، فمن الخلافات داخل العائلة الواحدة إلى الطرد من العمل، وصولاً إلى القتل والذبح، والأخطر في العملية حين تبدأ الأطراف المحلية والإقليمية والدولية باستخدام الطائفية والمذهبية تخويفاً وتحذيراً، ما يمثّل لدى الإنسان استعداداً دائماً للتصدي لهذا الخطر. المعارضون والموالون يتقاذفون الاتهامات في المسبب الرئيسي للعنف، فالمعارضة تتوجه إلى اتهام النظام باستخدام القمع ضد التظاهرات من خلال اعتماد العنف أثناء دخول المدن، واستخدام الرصاص في عمليات قواته، والسلوك الذي يتخذه رجال الأمن في تعذيب المتظاهرين، كما أن النظام يتهم بوجود مجموعات مسلحة تعتدي على الجيش وتقوم بعمليات التذبيح والقتل في مختلف المناطق. الدائرة مغلقة، فالحوار لم يدخل في حيز التنفيذ بالمعنى الحقيقي حتى بعقد جلسات الحوار في المحافظات، لكن تبقى نتائج هذا الحوار بعيدة عن الحياة اليومية، ويلزمها وقت لتأخذ فعلها، ففي بعض هذه الجلسات كانت معظم دوائر العنف من رفض الآخر وعدم الإصغاء إليه موجودة.
في هذه الدوائر العنيفة نصل إلى الحائط المسدود في كيفية الخروج منها، مع إصرار كل طرف على البقاء في قوقعته الخاصة، النظام تأخر سنين طويلة لكي يفتح باب الحوار، ولم يفتحه إلا بعد مخاض مؤلم، كما أن هناك سلوكاً لكثير من المعارضين يضع إشارات استفهام حول امتلاكهم عقلية النظام الذي يحاربونه.
منذ أشهر أرسل نيلسون مانديلا رسالة إلى الثوار العرب، وكانت موجهة على نحو رئيسي إلى تونس ومصر، في الرسالة كلمات قليلة تمثل ربما أحد المخارج لأزمة العنف في سوريا، إذ يقول: «إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير. أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك، وأثبتتْ الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الحرب الأهلية، أو إلى الدكتاتورية من جديد».