على الأرجح، حتى أبو مازن لم يصدق نفسه بينما كان يعتلي منصة الأمم المتحدة. وإن فعل، فهو متأكد من أن الآخرين لا يصدّقونه. قالها صراحة في أحد اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير: «أنتم لا تصدقونني؟»، بأنه لا يقدم تنازلاً جديداً هذه المرة وأنه ماضٍ في المعركة إلى خواتيمها، «لكنكم ستُفاجأون»، على ما أفادت مصادر قيادية في منظمة التحرير، أوضحت أنها مطمئنة إلى أن الرئيس الفلسطيني لن يلعب تحت الطاولة هذه المرة، وحجتها في ذلك أنها المرة الأولى التي يكون فيها أعضاء اللجنة التنفيذية هم عداد الوفد الذي يرافقه إلى نيويورك.
اللافت أن هناك إجماعاً في المنظمة على خطوة عباس، وإن كان هناك انقسام بشأن ما إذا كان يريدها خطوة تكتيكية أو استراتيجية. وحدها «طبقة أوسلو»، ممثلة بياسر عبد ربه وصائب عريقات، حاربت رئيسها لكي لا يقدم على عمل كهذا.
صحيح أن العوامل التي دفعت أبو مازن إلى هذا الخيار يمكن وصفها بأنها ظرفية: وصول المفاوضات إلى حائط مسدود، مع عجز أميركي عن دفع إسرائيل إلى وقف الاستيطان أثناء المفاوضات، وانقطاع الدعم العربي للسلطة بعد الحسم العسكري في غزة، حيث كانت المرّة الأولى التي يصل فيها تيار الإسلاميين إلى الحكم، فكانت العقوبات والحصار، ومعهما فقدان الثقة بفتح. وإذا ما استعدنا أسس مدرسة أبو مازن القائلة برفض الكفاح المسلح وباستعادة الحقوق بالتعاون مع المجتمع الدولي والمفاوضات السلمية ودعم العرب، يكون هذا الأخير قد بلغ حافة الإفلاس، ولا بد من تحريك البركة الراكدة بحجر من نوع مختلف. الخوف كل الخوف أن يكون أبو مازن يقف عند النقطة الأخيرة تلك، رغم أن النقاشات التي أجراها الأخير أمام اللجنة التنفيذية تقول بغير ذلك.
قررت القيادة الفلسطينية العمل على خطين:
الأول، استعادة الوحدة الفلسطينية، وإعادة هيبة السلطة باعتبارها تجمع الشعب الفلسطيني، وأنها ليست لجزء منه. والمصالحة تأتي في هذا الإطار، وقد عجّل بها الربيع العربي وضغط القيادة المصرية الجديدة، وكانت أولى نتائجها امتصاص حركة الشارع. وكان لافتاً الاتفاق على تأجيل تنفيذ مقررات المصالحة إلى ما بعد أيلول، موعد انعقاد الجمعية العامة، وتجديد العمل باتفاقيات أوسلو.
الثانية، المبادرة إلى خطوة غير تقليدية، مسلحة بشكل من أشكال الوحدة التي كان واضحاً أن فتح لا تستعجل تنفيذها لحسابات فصائلية. وبالتالي، مثّلت المصالحة الشكلية ورقة للتحرك السياسي لأبو مازن يستثمرها في المطالبة بالأمم المتحدة باعتبارها قضيّة «ربّيحة» تقوّي السلطة.
المنطق السالف الذكر لا شك في أنه يرجّح فرضية الخطوة التكتيكية، ما يعني وفق المعطيات الحالية قبول عرض الرباعية بإجراء مفاوضات خلال شهر وعقد اتفاق قبل نهاية 2012. أصلاً قالها أبو مازن بوضوح في أحد خطاباته: «إنها ليست الاستراتيجية الفلسطينية، بل جزء من الاستراتيجية الفلسطينية. لن آتيكم بدولة في اليوم التالي». في رأيه، على ما يقدّر الجميع، أن الدولة والاستقلال يأتيان بالمفاوضات.
ومع ذلك، يبدو واضحاً أن هناك تياراً قوياً داخل المنظمة، من معارضي مسار أوسلو، ومن الداعين إلى التخلي عنه بعد كل ما حصل، ينظرون إلى المعادلة بنحو مختلف. يتحدثون عن عوامل أربعة يرون أنها تفرض تحوّلاً جوهرياً في القضية الفلسطينية.
يقولون أولاً بانهيار مسار أوسلو، وليس فقط وصوله إلى طريق مسدود، موضحين أن هذا المسار أقيم على معادلة إقليمية كانت مصر مبارك جزءاً لا يتجزأ منها. لا أحد ينسى أن هذه الأخيرة كانت من رعى مفاوضات أوسلو، حيث كان لخبرائها دور كبير في ما آلت إليه الأوضاع، وهي التي حضنت الاتفاق، وأسهمت في تطبيقه، بل أكثر من ذلك، لقد أدى اتفاق أوسلو إلى خروج مصر كامب ديفيد، التي حدّدت في هذه الاتفاقية آمال الشعب الفلسطيني وأمانيه بحكم ذاتي، من قافلة داعمي القضية الفلسطينية.
ويقولون ثانياً بولادة نظام عربي جديد بتوجهات مختلفة، قد يكون أحد مؤشراته اقتحام السفارة المصرية في القاهرة، فضلاً عن المعلومات المتسرّبة من القاهرة عن زحف شعبي مصري على إسرائيل في 2012. يرون أن فلسطين لطالما كانت قلب العالم العربي الذي دخل ربيعاً بقيت فلسطين بعيدة عنه، وبالتالي لا بد من إعادة فلسطين إلى قلب هذا العالم.
يقولون ثالثاً إن المشروع البديل، مشروع المقاومة، يبدو مأزوماً عندما تعطّل دور «حماس» مع وصولها إلى الحكم في غزة، حيث باتت سلطة مسؤولة عن معيشة الغزاويين وحياتهم وأمانيهم وتطلعاتهم، «وهذه غزة التي لم تتحملها حتى إسرائيل»، يضيفون إنها باتت سلطة تريد أن تحمي نفسها، بدليل تمسّكها بالتهدئة واعتقال كل من حاول خرقها، مشيرين إلى أن «وضعاً كهذا مريح بالنسبة إلى تل أبيب، التي تفضّل أن يكون النمر في القفص لا خارجه، وهذه هي وضعية حماس».
يقولون رابعاً إن المشروع الرديف، أي المشروع الأوروبي الذي يعبّر عنه سلام فياض، وصل إلى نهاياته. ويفيد هذا المشروع ببناء كل مقومات الدولة، وفرضها كأمر واقع على الأرض، ومن ثم التوجه إلى المجتمع الدولي للمطالبة بإعطائها وضعها القانوني.
ويقولون أخيراً إن أبو مازن يدرك أنه لن يكون الرئيس المقبل. يضيفون إنه كررها أكثر من مرة أنه لن يترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو بالتالي يسعى إلى تحقيق إنجاز يختم به حياته السياسية، «الدولة».
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن قضية التوجه إلى الأمم المتحدة لطلب العضوية الكاملة ليست جديدة. طُرحت للمرة الأولى عام 1999، مع انتهاء مدة الخمس سنوات التي حددتها اتفاقيات أوسلو من أجل التوصل إلى حل نهائي وقيام الدولة الفلسطينية الموعودة التي أعلنت عام 1988 وحصلت على اعتراف 126 دولة، لكن عرفات رفض، هذه الخطوة على قاعدة أنها ستؤدي إلى ضغط أميركي لا يريده، فضلاً عن أن مسار المفاوضات لم يغلق بعد. وهكذا، ومع كل انتكاسة تصيب هذا المسار، كان التوجه إلى الأمم المتحدة يُطرح كنوع من الهروب إلى الأمام، في مقابل فكرة ثانية، أشبه بالهروب إلى الخلف، تقول بحل السلطة والعودة بالوضع إلى ما كان عليه قبل الاتفاقيات المشؤومة.
مصادر قيادية فلسطينية تقول إن «الفكرة لطالما كانت موجودة، لكن تبيّن أن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين تريد الدولة، وهي خطوة تنقذ القضية من الضياع. كذلك تبيّن أن المفاوضات فارغة، وأن الهدف الرئيسي يجب أن يكون إنهاء الاحتلال. وبما أنه لا وجود لخطط عسكرية فلسطينية موحّدة بسبب خلافات الفصائل، فقد جاءت المبادرة سياسية أولاً». وتوضح أن «الأساس النظري لخطوة المطالبة بعضوية كاملة في الأمم المتحدة يقوم على إعادة القضية إلى المجتمع الدولي، وعدم الانحصار في المربع الأميركي. أي إخراج القضية من مسار أوسلو وإعادتها إلى سكّتها الصحيحة. تغيير مرجعية المفاوضات، من طاولة المفاوضات وتفاهمات أوسلو وتوابعها إلى القرارات الدولية، واستبدال الولايات المتحدة، بصفتها حكماً نزيهاً يرعى المفاوضات، بالأمم المتحدة».
المصادر نفسها تشدد على أن «خطوة كهذه وحدها غير كافية، بل يجب أن تليها استراتيجية لتحقيق الوحدة عبر مصالحة حقيقية تؤدي إلى ترتيب البيت الفلسطيني عن طريق مجلس وطني منتخب من الشعب في الداخل والخارج، يأتي بلجنة تنفيذية تكون هي جهاز الحكم الفلسطيني الذي يعبّر عن فئتي الشعب، تضع استراتيجية جديدة للنضال، فيها كل الوسائل متاحة والخيارات مفتوحة من أجل زوال الاحتلال». وتلفت إلى أن «نقطة الضعف في طرح أبو مازن هي أنه مصرّ على أمرين: الأول، رفضه استخدام السلاح إطلاقاً ورفضه لتظاهرات تشتبك مع الاحتلال، علماً بأن الحراك الشعبي يجب أن يقوم بأمور كهذه في ظل تجهيز العدو لميليشياته وتوزيع السلاح على المستوطنين. والثاني، أبو مازن يقول المفاوضات والمفاوضات والمفاوضات، حتى بعد العضوية في الأمم المتحدة. لا مشكلة في المفاوضات، لكن أي مفاوضات. الإشكال من الذي يفاوض ووفق أي مرجعية. المطلوب مفاوضات برعاية الأمم المتحدة ومرجعيتها القرارات الدولية لتطبيقها لا للتفاوض بشأنها».



الجهد العربي ومخاوف إسرائيل


مع طرح فكرة التوجه إلى الأمم المتحدة عرضت قطر المساعدة، والاستعانة بشركة استشارية دولية تعهدت هي بدفع فواتيرها، وهذا ما حصل. أما قيمة الفاتورة، فكانت سبعة ملايين دولار، لكنّ خلافاً حصل على أولوية الذهاب إلى الجمعية العامة أو إلى مجلس الأمن الدولي. وأيد وزير الخارجية المصري السابق نبيل العربي «استصدار قرار من الجمعية العامة أولاً والاستقواء به على مجلس الأمن، إذ سيكون مدعوماً بأكثرية المجتمع الدولي، وبالتالي يضفي عليه المشروعية الدولية». بينما دعم الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى التوجه مباشرة إلى مجلس الأمن لأنه صاحب السلطة، وهو الذي ينفذ القرارات الدولية، أياً تكن الجهة التي أخذتها.
مصادر فلسطينية عليمة بشؤون الآراء الاستشارية وشجونها تقول إن «رفض مجلس الأمن للطلب الفلسطيني سيجعلنا نتوجه إلى الجمعية العامة، حيث موافقة ثلثي الأعضاء تحقق لنا العضوية الكاملة، فيما الأكثرية العادية تحقق لنا مقعد عضو مراقب مثل الفاتيكان. لكننا في الحالين سنكون دولة، وسيحق لنا الانضمام إلى كل هيئات الأمم المتحدة». وتتابع أن «مشاركة كهذه ستجعلنا نتخلص من الابتزاز الذي نتعرض له كلما أردنا رفع طلب إلى الأمم المتحدة. نحن الآن نمارس إجراءات كهذه عبر طرف عربي عادة ما يبيع ويشتري فينا». المصادر نفسها تقول إن «أسوأ ما يمكن أن يحصل هو ألا نحظى بتأييد تسع دول في مجلس الأمن، عندها نفقد حق التوجه إلى الجمعية العامة. واشنطن تسعى إلى ذلك لتتجنّب إحراج الفيتو، وهو ما يستخدمه البعض للضغط على أبو مازن لقبول عرض الرباعية. بالنسبة إلينا، يجب ألّا نذعن. يمكننا كل شهر أن نتقدم بطلب كهذا إلى الأمم المتحدة». يبدو واضحاً أن الأميركي محرج من استخدام الفيتو، هو الذي قدم نفسه مذ اشتعلت الشوارع العربية ثورات وانتفاضات، بصفته المدافع عن حقوق المظلومين وحرية المضطهدين. هو «لا يريد تشويه هذه الصورة، ولذلك لعب، في الفترة الأولى، ورقة الضغط على السلطة الفلسطينية، إما مباشرة أو عبر أطراف عربية. وبعث الوفود إلى أبو مازن لإقناعه بالعودة إلى طاولة المفاوضات مع وعود بدولة على حدود ١٩٦٧ مع تبادل أراض. ومع تعنت أبو مازن، لأسباب متعددة انتقلت واشنطن إلى الضغط على أعضاء مجلس الأمن، في محاولة منها لضمان عدم حصول الطلب الفلسطيني على 9 أصوات من أصل 15، ما يعفيها من إحراج استخدام الفيتو، وعلى الرباعية، في محاولة منها للتوصل إلى صيغة ترضى عنها روسيا، وأيضاً على إسرائيل، التي ترفض الفكرة من أصلها، وتخشى العودة إلى الأمم المتحدة والقرارات الدولية، وخصوصاً الطرح المتوقع لقضية الحدود، حيث هي مطالبة بتحديد دولتها. وهو أمر سيهدد الاستيطان الذي بررته إسرائيل بأنه بني على أراضٍ نجحت إسرائيل في وصفها بأنها «متنازع عليها». وعندها سيصبح الاستيطان «جريمة حرب» على ما ينص عليه القانون الدولي. بمعنى أن احتلال أراضي 1967، حتى لو بقي، ستنزع عنه الشرعية التي أعطته إياها أوسلو، فضلاً عن التسونامي القانوني الذي تتوقعه تل أبيب، ما إن تصبح الدولة الفلسطينية عضواً في الهيئات القانونية للأمم المتحدة، وعن أن الاحتلال سيصبح احتلالاً لدولة عضو في الأمم المتحدة، ما يعطيها حق طلب الحماية الدولية، كما يعطيها حق مقاومة المحتل بكل الطرق.