تروِّج حكومة بغداد وجهة نظر مفادها أنّ العقود الاستثمارية النفطية التي تبرمها مع الشركات الأجنبية هي عقود علنية وشفافة وليس لأي دولة أجنبية، سواء كانت الولايات المتحدة أو بريطانيا، أي أفضلية أو تمييز على غيرها. لا يمكن نكران صحة بعض أجزاء وجهة النظر هذه. فالعقود تبرم فعلاً بشفافية وعلنية لم يألفها العراق ولا دول المنطقة، وسياقات جولات التراخيص الخاصة بها والشبيهة بالبيع على طريقة المزايدات التجارية لا تعطي أي أفضلية لأي شركة أميركية أو بريطانية، لكن السؤال لا يتعلق بالشكليات الإجرائية التي تعقد بموجبها العقود، بل بطبيعة العقود ذاتها، وبالنتائج الفعلية على أرض الواقع لتلك الجولات. فالعقود المبرمة هي نوع خاص جداً في سوق النفط، فلا هي من نوع عقود الخدمة الفنية، التي تعني تأجير خدمات شركة نفطية أجنبية، بما في ذلك مختلف الفعاليات الإنتاجية في عقد أو عدة عقود لقاء أجر محدد، ولا هي من نوع عقود المشاركة في الإنتاج ذات المضمون اللصوصي. أما قصة عدم تفضيل أو محاباة الشركات الأميركية والبريطانية، فهي لا تصمد أمام حقائق الواقع التي تقول إن عدداً مهماً من هذه العقود صبَّ ذهبَهُ في جيوب تلك الشركات الأميركية والبريطانية العملاقة وبطريقتين: مباشرة، حين ترسو العقود على هذه الشركات الأصلية الأم، أو غير مباشرة، حين ترسو العقود على شركات صينية أو روسية تهيمن الشركات الأميركية على نسبة كبيرة من أسهمها.
إن عقود المشاركة في الإنتاج هي أسوأ أنواع العقود وذات سمعة كريهة عالمياً، ولهذا فإنّ الحكومة العراقية، أطلقت عليها اسماً «جميلا» آخر هو (عقود التنقيب والإنتاج) في محاولة لتلافي الحرج الذي يثيره الاسم القديم. هذه العقود على نوعين: الأول يسمّى النموذج الليبي، وهو متشدد قليلاً مع الشركات الأجنبية، ويضع الكثير من الشروط، والنوع الثاني هو النموذج الروسي، أو اليلتسني، نسبة إلى الرئيس الأسبق بوريس يلتسن، الذي كان متعجلاً على بيع ثروات تلك الدولة، ومنها النفط بسعر التراب للغرب وشركاته. وقبل أن نفصل في موضوع عقود المشاركة في الإنتاج، ولتوضيح حجم جريمة سرقة الثروات العراقية، نعلم مثلاً أن خسائر العراق بموجب عقود المشاركة من النوع الروسي، وإذا افترضنا أن سعر البرميل هو 30 دولاراً فستكون بين 55 و143 مليار دولار. أما إذا كان سعر البرميل 60 دولاراً، فإن الخسائر ترتفع إلى ما بين 110 مليارات و 300 مليار، فكيف سيكون حجم الخسائر وقد تجاوز سعر البرميل 100 دولار اليوم؟
إنّ عقود المشاركة في الإنتاج تُستعمل في ما نسبته 12% من الإنتاج العالمي النفطي، وهي في تناقص مستمر وزوال تدريجي حتى في روسيا. وهي تقوم على فكرة المجازفة من جانب المقاول أو الشركة الأجنبية في مناطق بِكر ووعرة غير مستكشفة، أو بعيدة وصعبة كأعماق البحار، حيث الأكلاف الاستثمارية عالية، وحيث إمكان العثور على النفط غير مؤكد عند توقيع العقود.
تاريخياً، كان نظام صدام حسين أول من بادر إلى إبرام هذا النوع من العقود خلال الحصار الدولي على العراق، حيث تعاقد مع الصين على الاستثمار في حقل «الأحدب»، ومع روسيا في حقل «غرب القرنة». وقد فشل المشروع بفشل الصين وروسيا في رفع الحصار الغربي عن العراق. أما لجوء حكم المحاصصة المتحالف مع الاحتلال، وبهذه الكثافة، ووفق نوع من العقود قريب من عقود المشاركة في الإنتاج، فيعدّ كارثة حقيقية، بل وتدميراً مبرمجاً للثروات العراقية.
نظرياً، لعقود المشاركة في الإنتاج ميزتان إيجابيتان هما: أنّ الشركات الأجنبية تتحمل فعلاً كافة المخاطر والتكاليف عن التنقيب عن النفط، وحتى إذا فشلت ولم تعثر على شيء، فلن تترتب على الحكومة أي خسائر. والميزة الثانية هي أن الحكومة تملك قانونياً النفط وجميع منشآته. أما سلبيات هذا النوع من العقود، فهي عديدة، لنبدأ بتعريفها أولاً: عقود المشاركة في الإنتاج هي عقود تبرم بين حكومة أو شركة نفطية «محلية» تمثلها مع شركة أو مجموعة شركات أجنبية بمشاركة من الأولى أو بدونها يكون الطرف الثاني «الأجنبي» بموجبها مسؤولاً عن توفير الخدمة الفنية والمالية، للتحري عن النفط والعمليات التطويرية الإنتاجية اللاحقة. وفي حال العثور على النفط يحصل المقاول أو الطرف الأجنبي على حصة متفق عليها من الإنتاج، إضافة إلى كميات من النفط المنتج مقابل مجازفة أو مخاطرة التعاقد، أما في حال عدم العثور على النفط فإن المقاول الأجنبي سيخسر كل الأموال التي صرفها دون أي تعويض من الحكومة. هذا النوع من العقود جاء بعد مرحلة عقود الامتيازات (Concessions) الاستعمارية، التي يمكن اعتبارها نهباً صريحاً يقوم به المستعمرون الغربيون بقوة السلاح الاستعماري، وقد جاءت حركة التأميمات التي قامت بها الأنظمة الشعبوية كنظام عبد الكريم قاسم 1958 في العراق لتقطع دابرها.
تُقسّم العائدات بموجب عقود المشاركة في الإنتاج على النحو الآتي:
ــ تتسلم الحكومة حصة تسمى «ريع حق الملكية» عند بدء الإنتاج وقد تكون قيمتها صفراً!
ــ يتسلم المقاول، « الشركة» الأجنبية، حصة محددة في العقد قد تبلغ 40%، وتسمى «نفط الكلفة»، لاسترجاع رأسماله الاستثماري كاملاً.
ــ يقسم ما بقي من الإنتاج الذي هو في مثالنا 60% بين الحكومة المحلية والمقاول الأجنبي بموجب اتفاق مسبق، كأن يكون 70% منه للحكومة والباقي للمقاول الأجنبي يدفع منه ضريبة دخل والباقي هو ربحه الصافي.
تفضل بعض الحكومات هذا النوع من العقود لأنه يجنبها المجازفة في التنقيب عن النفط في مناطق وعرة وبكر لم تُستكشف من قبل، أو بعيدة وصعبة في أعماق البحار مثلاً ويحملها للشركات الأجنبية. غير أن الفضيحة التي يصعب تصديقها هي أن مشروع قانون النفط والغاز الذي قدمته الحكومة العراقية لا يتحدث عن هذا النوع من الأراضي الصعبة، التي وجدت عقود المشاركة من أجلها، بل عن حقول نفطية موجودة فعلاً وهي ثلاثة أنواع وردت في ملاحق مشروع القانون: حقول آبار نفط منجزة ومنتجة حالياً في الملحق الأول، وحقول غير منتجة الآن وقريبة من عقود الإنتاج في الملحق الثاني، وحقول غير منتجة وبعيدة عن عقود الإنتاج في الملحق الثالث. فأين عنصر المجازفة أو المخاطرة في عقود كهذه؟ أليست هذه صيغة لتقديم النفط العراقي مجاناً وعلى طبق من ذهب إلى الشركات الأجنبية؟ يكتب الخبير النفطي العراقي فؤاد قاسم الأمير في هذا الصدد إنّ أية محاولة لإدخال أي من الحقول الواردة في الملاحق (1، 2، 3) لتكون ضمن عقود المشاركة، هو أمر تصفق له الشركات العالمية والمحتل عالياً، وهو في الواقع ليس تفريطاً هائلاً في مصالح الشعب العراقي والتفافاً على قانون (80) وقوانين التأميم فحسب، بل هو أيضاً التفاف حتى على مفهوم عقود المشاركة السيئة الصيت، التي هي أصلاً طريقة غير مقبولة لتطوير الصناعة النفطية العراقية».
وإذا كان البعض يفسر المجازفة والمخاطرة تفسيراً مغرضاً بأن يربطها بظروف العراق الأمنية المضطربة لتبرير الأخذ بعقود المشاركة في الإنتاج، فالسؤال هو: لماذا هذه العجلة من طرف الحكومة في زج تلك الحقول في المناطق المضطربة أمنياً في هذا النوع من العقود الآن؟ ولماذا لا تتولى شركة النفط الوطنية العراقية ذات التجربة الواسعة في ميدان التنقيب القيام بتلك المهمة بدلاً من تسليمها للشركات الأجنبية، مقابل أرباح طائلة. وأخيراً، لماذا تمنح الشركات مقابلاً ربحياً عن مخاطر «الظروف الأمنية» التي تقوم الحكومة العراقية ذاتها بتأمينها بحكم مسؤوليتها السيادية والأمنية؟
لقد خرجت الشركات الأميركية والبريطانية من جولات تراخيص عقود النفط العراقية حتى الآن بالكثير من العقود الدسمة، صحيح أنها لم تحصل على نصيب الأسد الذي حلمت به طويلاً، وذلك بسبب الكسر الاستراتيجي الذي تعرض له مشروع الاحتلال الأميركي للعراق ككل بفعل المقاومة العراقية وتطورات ما بعد الغزو، لكنها لم تخرج خالية الوفاض كما تريد لنا الحكومة العراقية أن نصدق.
لقد حصلت الشركة البريطانية العملاقة «بريتش بتروليوم» على عقد كبير في حقل الرميلة. كذلك حصلت شركة «شِل» البريطانية على عقد في حقل آخر. وحصلت شركة «موبيل» الأميركية الكبيرة على حقل، والشركة الأميركية الوحيدة التي انسحبت ولم تحصل على أي عقد هي شركة «شيفرون».
في الجولة الأولى للتراخيص زجت الحكومة بستة من أضخم الحقول النفطية العراقية باحتياطي نفطي مقدر بـ 43 مليار برميل، ومن بين الشركات العديدة التي شاركت في الجولة الأولى للتنافس فاز ائتلافان فقط بعقود استثمار. العقد الأول أبرم مع ائتلاف ضم شركة «شِل» البريطانية/ الهولندية وشركة «بتروناس» لتطوير حقل مجنون العملاق في جنوب العراق، الذي تصفه التقارير بأنه أحد أكبر الحقول في العالم، ورجح مخزونه بأكثر من 12.7 مليار برميل من النفط. ويبلغ إنتاجه الحالي بحدود 46 ألف برميل يومياً. والغريب أن هذا الحقل مكتشف منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، وقد بُدئ بتطويره منذ ذلك الحين، وعاودت الشركات النفطية العراقية نشاطها لاستثمار مخزونه النفطي في السنوات الأخيرة.
وإذا كانت الإمكانات الفنية لشركة نفط العراق لا تسمح فلماذا لا تعتمد الحكومة عقود الخدمة الفنية، وخصوصا أنّ هذا النوع من العقود استُعمل في العراق بعد تأميم النفط، وهو مستعمل حالياً في دول الخليج. وأخيراً، باعتراف الخبير النفطي الدولي بن لاندو، محرر شؤون الطاقة في اتحاد الصحافة الدولي (UIP)، فإن «عقود الخدمة بحد ذاتها مجزية جداً للشركات، لكن لو تستطيع الشركات الكبرى أن تحصل على عقود مجازفة (أي عقود مشاركة في الإنتاج ) فهذا أفضل لها، حيث إن الأرباح أكثر، والأهم وضع احتياطيها النفطي الجديد في حساباتها، وبذا تصعد أسهمها في الوول ستريت».



إقليم كردستان يطالب
بسحب قانون النفط


دعت رئاسة إقليم كردستان العراق، أمس، الحكومة العراقية الى سحب مسودة قانون النفط والغاز. واتهم متحدث باسم الإقليم، الذي يرأسه مسعود البرزاني، الحكومة الاتحادية بالاستخفاف بالاتفاقات السياسية لفرض صيغة مركزية وتكريس الدكتاتورية. وقال، في بيان، «عُدّ غياب سياسة نفطية اتحادية لأكثر من ست سنوات، تنصلاً غير مبرر من تنفيذ الاتفاقات السياسية، وتهرباً واضحاً من مسألة إقرار قانون اتحادي للنفط، وبعدما جرى التأكيد على استمرارية التوافق قبيل تأليف الحكومة العراقية الحالية كشرط أساسي لمشاركة التحالف الكردستاني فيها، نفاجأ الآن بتصرف مجلس الوزراء وبغياب معظم المعنيين من أعضاء المجلس بتمرير مسودة مغايرة تماماً لما اتفق عليه سابقاً بخصوص قانون النفط». ورأى أن «أسلوب تمرير المسودة يأتي بقصد استغفال أعضاء مجلس الوزراء، والاستخفاف بالاتفاقات السياسية لفرض صيغة مركزية خُطّت بنفَس استبدادي لتكريس دكتاتورية القرار الاقتصادي، ووضع مقاليد الكل بيد البعض».