سقط النظام الليبي فغرقت البلاد في الفوضى. انتشر المسلحون في الشوارع لتبدأ أعمال النهب و«التشليح». التزم السكان منازلهم حفاظاً على حياتهم؛ فالحوادث الأمنية باتت القوت اليومي هناك. أبطالها فتية يحملون أسلحة استولوا عليها من المخازن بعد هروب قوات معمر القذافي. أما الحركة الحياتية فمشلولة بكل ما للكلمة من معنى. انقطعت المواد الغذائية وارتفعت أسعارها. أقفلت المحال التجارية أبوابها وانقطع الدواء بعدما قصفت قوات «الأطلسي» مراكز التموين والإمدادات الطبية. استُهدفت معامل توليد الكهرباء، فغرقت البلاد في ظلام دامس. أما المياه، فقطعها الثوار بعد تسرب شائعات تُفيد بأن قوات معمر القذافي رمت مواد سامة فيها.
أزمة اقتصادية واجتماعية أطبقت على جميع القاطنين في ليبيا من دون استثناء. سيناريو كان متوقعاً استناداً إلى مسار المعارك، لكن سفارات الدول الأجنبية استبقته بالتواصل مع رعاياها. حددت أماكنهم وبدأت عملية الإجلاء. سفارة لبنان الوحيدة كانت غائبة عن السمع. فأبوابها، بحسب اللبنانيين هناك، مقفلة منذ بداية الأحداث. يؤكد جميع الذي اتصلت بهم «الأخبار» في ليبيا، أنهم لم يتلقوا اتصالاً واحداً من السفارة اللبنانية. ورغم أن جميع سفارات الدول الأجنبية ناشدت رعاياها عبر التلفزيون الرسمي ضرورة مراجعتها، إلا أن السفارة اللبنانية لم تحرك ساكناً، كأنها غير موجودة. حالها حال القائم بالأعمال نزيه عاشور، الذي غادر الأراضي الليبية منذ أشهر. يؤكد الرعايا اللبنانيون أنه هرب للنجاة بروحه، «تاركاً أبناء وطنه للقدر ليسيّر أعمالهم». وأشاروا كذلك إلى أنه لم يبق موظف واحد في السفارة لينوب عنه.
غياب المسؤولية لدى السفارة اللبنانية لم يكن وليد سقوط العاصمة الليبية فحسب؛ إذ رغم مراجعة عشرات اللبنانيين موظفي السفارة قبل أيام من إقفالها، للمطالبة بتجديد جوازات سفرهم استباقاً لاشتداد حمأة المعارك، إلا أن الجواب كان الطلب إليهم السفر إلى تونس لتجديده هناك. الطلب كان تعجيزياً، فالطريق من طرابلس إلى تونس محفوفة بالمخاطر بسبب توسع رقعة الاشتباكات بين مقاتلي الثوار وقوات القذافي.
وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أن أحد موظفي السفارة اللبنانية في ليبيا، علي حولي، راجع وزارة الخارجية اللبنانية عشرات المرات منذ نحو ثلاثة أشهر، ملحّاً عليها قبول تجديد جميع جوازات سفر اللبنانيين المقيمين في ليبيا المنتهية مدتها بسب الوضع الطارئ، إلا أنه لم يحصل على جوابٍ شاف. لكن الموظف المذكور لفت إلى أن وزير الخارجية الجديد، عدنان منصور، أخذ الأمر على عاتقه، بعد علمه بالأمر، بأن أعطى الأمر بقبول تجديد جوازات جميع الموجودين في ليبيا. وذكر حولي أن وزارة الخارجية كلفته يوم الخميس الماضي متابعة أمور اللبنانيين الموجودين هناك بعد إقفال السفارة اللبنانية ومغادرة القائم بالأعمال، لكنه لفت إلى أن انقطاع الاتصالات في طرابلس عرقل عمله. فبعد سيطرة الثوار على شركة الاتصالات أوقفوها عن العمل، الأمر الذي حال دون تمكنه من التواصل مع اللبنانيين الموجودين هناك. وذكر أنه استعاض عن انقطاع الاتصالات بذهابه مباشرة إلى بعض بيوت اللبنانيين بعد حصوله على العناوين من السفارة بهدف الوقوف على أحوالهم. مندوب وزارة الخارجية في ليبيا أكّد لـ«الأخبار» أن الوضع الأمني مستقر في شوارع طرابلس، لكنه لم ينف وجود انتشار مسلّح لمدنيين مجهولي الانتماء يقومون بأعمال نهب وسرقة. فالسلاح بات في أيدي الجميع بعد استيلاء المواطنين على مخازن الأسلحة.
ورغم ما تردد عن وجود باخرة مالطية لنقل الرعايا اللبنانيين بحراً، إلا أن المقيمين هناك نفوا ذلك، مشيرين إلى أنها «مزاعم بطولية لا أساس لها من الصحة». ليس هذا فحسب، فقد ذكروا أن جميع البواخر التي وصلت إلى ليبيا كانت أولويتها نقل رعايا الدول الأجنبية. وتحدث بعضهم عن وجود توجّه لدى وزارة الخارجية لنقل الرعايا الفقراء على حساب الدولة اللبنانية، أما ميسورو الحال فسيُنقَلون على حسابهم الخاص. التوجّه المذكور أثار استياء العديد من اللبنانيين هناك، فالوزارة لم تأخذ في الاعتبار تحوّل جميع اللبنانيين إلى محتاجين في الوقت الحالي، ولا سيما أن المصارف مقفلة منذ مدة والسيولة ليست متوافرة في متناول أحد. كذلك فإن المسألة لم تعد تقتصر على توفير ثمن تذكرة طائرة، فالارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية يهدد بفقدان القوت اليومي من الطعام من بيوت الكثيرين.
إضافة إلى ما تقدم، يبرز تحدٍّ جديد أمام وزارة الخارجية؛ فالموظف المنتدب إلى ليبيا أبلغ المعنيين أن بإمكانه نقل اللبنانيين الراغبين في العودة إلى مطار جربة في تونس، على أن تتولى الدولة اللبنانية نقلهم من هناك إلى لبنان. وعلمت «الأخبار» أنه ليس بمقدور وزارة الخارجية فعل شيء، باعتبار أن ذلك يتجاوز قدرتها، علماً بأن الاتصالات لا تزال جارية في هذا الخصوص.
وذكرت مصادر في وزارة الخارجية لـ«الأخبار» أن عدد اللبنانيين العالقين في ليبيا يبلغ نحو مئتي شخص، يتوزعون بين مدينتي سبها وطرابلس الغرب، علماً بأن نحو خمسين لبنانياً موجودون في سبها كانت قد انقطعت الاتصالات بهم منذ نحو ثلاثة أشهر. وتجدر الإشارة إلى أن نحو 85 لبنانياً كانوا قد جهّزوا حقائب السفر بعد إعلان وزير الخارجية عدنان منصور عن الباخرة المتوجهة إلى ليبيا لنقلهم، لكنهم لا يزالون ينتظرون إلى الآن. ورغم انقضاء أيام طويلة من دون تحرّك يذكر، إلا أن هؤلاء لا يزالون يعلّقون الآمال على وزارة الخارجية لإعادتهم إلى وطنهم.



«الخارجية» تعمل وفق الممكن

وسط اتهامات اللبنانيين المقيمين في ليبيا للسفارة اللبنانية بأنها الأسوأ، يبرز موقف مسؤول في وزارة الخارجية في لبنان يؤكد لـ«الأخبار» أن «الله لا يكلّف نفساً إلا وسعها». فيشير المسؤول المذكور إلى أنه لدى الوزارة خطة لإجلاء جميع اللبنانيين العالقين في ليبيا، كاشفاً عن استحداث غرفة عمليات تتولى التنسيق اليومي مع موظف انتدبته إلى العاصمة الليبية طرابلس للوقوف على أحوال الرعايا الموجودين هناك. ويذكر أن الموظف المذكور يقوم بجدولة الراغبين في العودة إلى لبنان، لكنه يلفت إلى أن المسألة «ليست بهذه البساطة». فالتكاليف المترتبة على ذلك باهظة لا قدرة لوزارة الخارجية على احتمالها في ظل الإمكانات المحدودة. وأشار المسؤول إلى أن العمل جار على قدم وساق، لكن ظروفاً كثيرة تؤخر إنجاز المهمة، لافتاً إلى أن وزير الخارجية عدنان منصور (الصورة) طلب تجديد جوازات سفر اللبنانيين المنتهية صلاحيتها.
أما مسألة «الوعد الكاذب» بإرسال باخرة لإحضار اللبنانيين، فأشار المسؤول إلى أن مالطا أبلغت لبنان أنها بصدد إرسال سفينة شحن لإحضار رعايا لبنانيين، لكنها عادت وتراجعت عن قرارها لاعتبارات أمنية ومادية.