منذ اندلاع الانتفاضة الليبية في السابع عشر من شباط الماضي، حرصت الحكومة السودانية على التزام سياسة الصمت تجاه ما يجري على الرغم من التوتر الذي اتسمت به علاقتها مع النظام الليبي طوال السنوات الماضية، قبل أن يتبين أن هذا الصمت لم يكن سوى ستار للدعم المقدم إلى قوات المعارضة في الخفاء. هذا ما تجلى باعتراف رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل، خلال لقاء مع وزير الخارجية السوداني علي كرتي أول من أمس، بأن كل الثوار في جميع الجبهات يعلمون أن السودان الدولة الأولى التي قدمت إليهم الدعم العسكري إلى جانب الدعم السياسي.
تأكيدات تأتي في وقت تخشى فيه الحكومة السودانية إلى جانب المجلس الانتقالي الليبي، من لجوء القذافي في حال نجاحه في الإفلات من محاولات اعتقاله، إلى محاولة استغلال اقليم دارفور المحاذي للحدود الليبية، ليس فقط لتغذية الحركات المتمردة، بل وتحويله إلى قاعدة لزعزعة الاستقرار في ليبيا، في ظل تداول معلومات عن وجود تنسيق بين الحركات المسلحة في دارفور ورجل الاستخبارات الليبي محمد مغرس عن طريق أوغندا.
وتفسر هذه المخاوف حرص الحكومة السودانية على إرسال كبار مسؤوليها السياسيين والعسكريين إلى بنغازي للتنسيق مع المجلس الانتقالي للمرحلة المقبلة، وخصوصاً أن العقيد لطالما مثل مصدراً رئيسياً للدعم المالي والعسكري للحركات المتمردة السودانية.
دعم لم يكن من الممكن للقذافي أن يقدمه لولا حالة العداء التي طبعت علاقته منذ مجيئه إلى السلطة بحكام السودان، وهو ما تبدى مرات عديدة، بدءاً بدعمه غزوة الخرطوم عام 1976 وقصف قواته الإذاعة السودانية عام 1984 بعد انهيار العلاقة بينه وبين جعفر النميري، مروراً بدعمه الحركة الشعبية لتحرير السودان ومطلبها الانفصالي، وليس انتهاءً باستغلاله إقليم دارفور.
وللقذافي علاقة طويلة نسبياً مع الإقليم، سبقت اندلاع الحرب الأهلية فيه عام 2003، وتعود على نحو رئيسي إلى المعارك التي اندلعت مع تشاد حول شريط اوزو، عندما لجأ القذافي إلى استخدام دارفور قاعدة خلفية لقواته العسكرية، فضلاً عن تحويلها إلى مقر للمعارضة التشادية المدعومة من القذافي. أما عند انطلاق شرارة الصراع في دارفور ضد الحكومة المركزية، فاختار العقيد لعبة مزدوجة للتعاطي مع الأزمة، قائمةً على رفع لواء الوساطة بيد ودعم الحركات المتمردة بيد أخرى، مستفيداً من التقارب الجغرافي من جهة، والتداخل القبلي من جهة ثانية. وحرص النظام الليبي، منذ البداية، على الإمساك منفرداً بملف التفاوض ليستضيف على مدى سنوات أعداداً لا تحصى من المؤتمرات لبحث سبل حل الأزمة. أما انتقال ملف المفاوضات إلى الدوحة، فأثار حنق القذافي، قبل أن يستغل التعثر الذي أصاب التفاوض بانسحاب حركة العدل والمساواة، ليعيد محاولة فرض نفسه لاعباً رئيسياً في الملف. فسارع إلى استضافة زعيم الحركة إبراهيم خليل بعد تخلي تشاد عن استضافته، نتيجة تحسن علاقتها بالسودان، بالتزامن مع إعلان نيته عقد مؤتمر لتوحيد جهود حركات المعارضة الدارفورية، قبل أن تأتي الانتفاضة الليبية لتضع حداً لتوجهاته. ومن هذا المنطلق، نظرت الحكومة السودانية منذ البداية بإيجابية إلى التطورات على الساحة الليبية، على اعتبار أن من بقي من متمردين وخصوصاً مقاتلي حركة العدل والمساواة، لن يجدوا مفراً بسقوط القذافي من الالتحاق بالعملية التفاوضية، ولا سيما بعدما نجحت الخرطوم من خلال الترويج لمعلومات عن مشاركتهم إلى جانب كتائب العقيد الليبي في القتال ضد المعارضة، بتصويرهم على أنهم مرتزقة، لتحرمهم أي فرصة للحصول على ملاذ آمن في ليبيا.