منذ اندلاع شرارة الانتفاضة الشعبية في ليبيا في شباط الماضي، بدأت التحذيرات والتوقعات تتناول العامل القبلي ودوره في إذكاء النزاع على السلطة، ولا سيما أن قبيلة القذاذفة التي يتولى أحد أبنائها (العقيد معمر القذافي) السلطة على مدى 42 عاماً، هي من أصغر القبائل الليبية، بينما كان الملك محمد السنوسي، الذي انتزعت منه ثورة الفاتح من سبتمبر عام 1969 الحكم، ابن أكبر قبيلة (المقارحة). لعل التهديد الأول قد جاء على لسان نجل العقيد القذافي، سيف الإسلام، بعيد اندلاع «ثورة 17 شباط»، حين حذّر من عواقب دخول بلاده في دوامة حرب أهلية إذا استمرت الاحتجاجات على النظام، بالقول إن «القبائل ستتقاتل في ما بينها في الشوارع». ولم يكن الزعيم الليبي المخلوع يتحدث من فراغ حين كان يغازل القبائل في معظم خطاباته ويحاول استمالتها إلى جانبه، مُحذّراً من تسليحها وجعل ليبيا «جمرة حمرة».
وبدا أن قائد الثورة، الذي أنهى عهد السنوسية من دون أن يخسر أبناء قبيلتها، قد اطمئن إلى أن «المقارحة» لن يقفوا ضده في معركته الأخيرة. لقد عمل المستحيل وقدّم الكثير من التنازلات لإطلاق أحد أبناء هذه القبيلة (عبد الباسط المقرحي) من سجن في اسكتلندا بعدما أُدين بتهمة تفجير طائرة ركاب أميركية تابعة لشركة «بان أميركان» أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي بإسكتلندا سنة 1988. كذلك فإن القذافي منذ بداية نجاح ثورته قبل 42 عاماً وضع بعض أبناء القبيلة في مواقع مهمة وحساسة، مثل تعيين الرائد الركن عبد السلام جلود مساعداً له، وسلّمه أهم الملفات السياسية في البلاد. وكان انشقاق جلود وخروجه الأسبوع الماضي قد أسهما في تأييد قبيلة المقارحة للثوار. أما «المقارحي» الآخر، الذي وصل إلى مرتبة عالية في النظام، فهو رئيس جهاز الاستخبارات عبد الله السنوسي (المطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية). يوصف السنوسي بأنه عين القذافي وأذنه ويده اليمنى في إحكام السيطرة الأمنية على البلاد، وهو في الوقت نفسه نسيبه، إذ إنه متزوج من أخت صفية فركاش الزوجة الثانية للقذافي.
أما قبيلة الورفلة، فقد كانت إلى جانب القذاذفة والمقارحة في حلف أنشأه القذافي في بدايات عهده. لكن هذا الحلف لم يصمد طويلاً، فقد ثارت الورفلة (أكبر قبيلة، وعدد أبنائها مليون شخص) ضد نظام القذافي في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، وقادت بمساعدة أبنائها الضباط الذين كانوا منتشرين في الجيش وقتها عملية عسكرية فاشلة بعد اغتيال حسن إشكال الذي يعدّ أحد قادتها البارزين، وتعرّض هؤلاء الضباط للقتل والسجن والتضييق عليهم. ثم عادت الورفلة أخيراً لتعلن انضمامها إلى انتفاضة الشعب الليبي. وسهّل أحد أبنائها العقيد البراني اشكال سقوط طرابلس، عندم فتح المدينة أمام الثوار من موقعه كقائد لكتيبة حماية القذافي.
فالقذاذفة لا يمكنها وحدها حكم البلاد. هي قبيلة صغيرة لا يزيد عدد أفرادها على مئة ألف شخص. لذلك كان تحالفها إلى جانب قبيلة أولاد سليمان مع المقارحة أحد أسباب إطالة عمر النظام، ولا سيما أن المقارحة هي ثانية أكبر القبائل.
لكن على الجانب الآخر، حظيت الثورة، وإن كان شعارها متجاوزاً للمسألة القبلية، بدعم قبائل عديدة ولها وزنها على الساحة الليبية. فقبيلة ترهونة وحدها يبلغ عدد أفرادها 350 ألف نسمة. وإضافة إلى ترهونة، هناك العديد من القبائل الليبية التي يصل عددها إلى نحو 140 قبيلة وفخذاً، منها الزنتان (كانت من أوائل المدن الغربية التي ثارت ضد السلطة وهي تتمركز في جبل نفوسة في الغرب).
وبحسب الخريطة الديموغرافية للجماهيرية الليبية، فإن انتشار القبائل على الصورة الآتية: العواقير والعبيدات الشرق وقبائل مصراتة في بنغازي (هذه المناطق في الشرق). أما القذاذفة فيتوزعون في مناطق الوسط وسرت وسبها وطرابلس، فيما يتمركز المقارحة في منطقة فزان (وسط) والورفلة في الجنوب والزوية في الشرق.
وفي مناطق الشمال الغربي يعيش أبناء من قبائل الورفلة وترهونة وصقر وبني وليد والزنتان، بينما تعيش في الجنوب الغربي قبائل الطوارق وفي الجنوب الشرقي قبائل التبو.
لقد أظهرت الوقائع على الساحة الليبية أن أبناء القبائل لم يكونوا وقوداً لفتنة كما استشرف النظام البائد وبعض المراقبين، بل كانوا أهم داعم للثورة.