أخطاء كثيرة ارتكبها «فاتحو» طرابلس وهم يزحفون من الشرق والغرب نحو ما قد يعتقدون أنه المعقل الأخير للعقيد معمر القذافي. منذ البداية كانت مشاكلهم تتركز على القيادة والتنظيم والتدريب والتسلّح، وكذلك القراءة الثورية الاستراتيجية الواضحة لمستقبل ليبيا ما بعد القذافي. عناصر قد يدفعون ثمنها غالياً بعد انهيار نظام العقيد في طرابلس، ليبقى النظام العرفي الذي تعرفه القبائل عقبة في وجه بناء نظام ديموقراطي في دولة بحجم قارة.وقد يكون من الصعب تصوّر انتهاء مقاومة العقيد بدون انتقال حلفائه التقليديين إلى صفوف خصومه، ولا سيما أنه مستعد منذ أمد بعيد لمثل هذه الحالة في داخل ليبيا وخارجها. فهو من واجه الغارات الأميركية في قصر العزيزية عام 1986 ناجياً بروحه وبَدَنه بفضل علاقات نسجها مع زعماء أوروبيين بناءً على مصالح شخصية فعّالة. قبل الغارة بيومين، حذّره رئيس الوزراء الإيطالي بتينو كراكسي من الطائرات الأميركية المهاجمة، فهرب من القصر، ونجا غير آبه بابنته بالتبنّي التي تركها تواجه حتفها ليستغلّ دماءها في الحملة الإعلامية على المهاجمين.
قبلها بستة أعوام، وفي ظروف غامضة جداً، تخلى القذافي عن رحلة جوّية بعدما وردته معلومات أوروبية عن خطة فرنسية لاغتياله. حاول الفرنسيون إسقاط طائرة حربية كان يفترض أن تقلّه في 27 حزيران 1980، إلا أن الطائرات الفرنسية أخطأتها لتُسقط طائرة ركاب إيطالية. الإيطاليون يتساءلون عن السر الذي جعل حكوماتهم تفضّل التعامل مع القذافي. لكن ستيفانو فكارا، المراسل الإيطالي في نيويورك المتابع للعلاقة الإيطالية بالقذافي، قال لـ«الأخبار» إن الزعيم الليبي دخل في صفقات سرية مع زعماء إيطاليين، و«ربما مع زعماء في المافيا، إلى درجة أنه عندما غضب من خطة إيطالية لإقامة معاهدة دفاع مشترك بينها وبين مالطا، فجّر محطة قطارات ميلانو وقتل العشرات». لكن إيطاليا فضّلت عدم مواجهة القذافي رغم علمها القطعي بأنه وراء الحادث، بل تخلّت عن خطة المعاهدة. فكارا يفسّر ذلك بأن القذافي وظّف ثروته الهائلة في إيطاليا، وساعد عصابات إيطالية في تطهير أموالها عبر ليبيا، ولذلك فإنه يمتلك أسراراً كثيرة تورّط زعماء، وسيستغلها حتى بعد انهيار نظامه.
أما في الداخل، فسيراهن القذافي على مئات الألوف من المنتفعين من النظام الذي دام 42 عاماً، في الدفاع عن امتيازاتهم. امتيازات كانت في أغلب الأحيان تمنح على أسس قبلية وعرقية. يقول الدبلوماسي الليبي، إبراهيم الدباشي، الذي قاد الانشقاق عن القذافي في بعثة الأمم المتحدة، لـ«الأخبار»، حاول القذافي أن يعتمد على ثلاث من أبرز قبائل ليبيا. «وهي قبيلة القذاذفة وقبيلة الورفلة وقبيلة المقارحة. حاول أن يبلغ القبائل الثلاث أن الحكم في أيديها، وأنها هي شريكة معمر القذافي في الحكم، وأنه إذا انتهى معمر القذافي فسيذبحهم الليبيون».
هذه السياسة التي قامت على تمييز قبائل عن أخرى ستوضع على المحكّ في الأيام والأسابيع المقبلة. كثير من زعماء هذه القبائل أعلنوا انشقاقهم عن النظام، لكن مسألة دخولهم في التحالف مع المجلس الانتقالي تبقى خاضعة لتوليهم لمناصب تشعرهم بأنهم لن يتعرضوا للثأر في النظام الجديد. والانتخابات الديموقراطية قد لا تكون أفضل صيغة لكسب تأييد تلك القبائل على المدى البعيد.
القذافي شقّ الكثير من الطرق السرية والأنفاق من أجل الهرب عند الشعور بالخطر. ولجأ في السابق إلى نقل ثروات طائلة إلى الجنوب. ثروات من المرجّح أن يوظفها في تنظيم تحالفات متمردة في الجنوب، ولا سيما من مدينة سبها الكبيرة التي بقيت معقلاً رئيسياً لأنصاره حتى الآن وحشدت تعزيزات له. ويخشى سكان هذه المدينة، أسوة بسكّان سرت، من الزاحفين الذين يعتبرونهم «غزاة»، ولن يكون من السهل طمأنتهم إلى دور كبير يؤدونه في الصيغة الليبية المقبلة.
وهناك أيضاً قبائل الطوارق في الجنوب وامتداداتها الأفريقية في الجزائر ومالي والنيجر. صلات القذافي بها كانت وطيدة؛ منح الجنسية لعشرات الآلاف منهم، وسخّر الكثير منهم في مغامراته العسكرية في الخارج، ولا سيما في تشاد. وفكّر ذات يوم في إقامة إمبراطورية خاصة بالطوارق المنتشرين بالملايين في الصحراء الكبرى حتى موريتانيا وجعلهم من بطانته العسكرية المقرّبة. وهو يستطيع مواصلة الاعتماد على ولائهم إذا حافظ على مستوى من المقاومة في المناطق الجنوبية الممتدة من سبها في الوسط إلى حدود النيجر وتشاد في الجنوب. فهو يتمتع بقواعد عسكرية عديدة في المنطقة، ويستطيع التنقل بمجرد اختراق حصار طرابلس ليصل إلى بلدان أفريقية مجاورة. فالحدود بين الدول مفتوحة في كل الاتجاهات، ومن المستحيل فرض حصار حقيقي على أي طرف منذ القدم. كانت حماية الحدود تعتمد منذ زمن الرومان على شيوخ القبائل، وهؤلاء يحددون عادة الحلفاء من الأعداء. لذا لا يمكن ضمان ولائهم عبر صناديق الاقتراع على أسس الوطن الواحد أو الدائرة الانتخابية النسبية الموحدة. وقد تثبت الأيام أن القذافي لن يتمكن من أن يكون عمر مختار، لكنه قد يتحول إلى أسامة بن لادن آخر، يستطيع التخفّي والمقاومة إلى حين، قبل أن يسقط في أيدي أعدائه.