لم يكد الاجتماع «التاريخي» بين مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، جيفري فيلتمان، وقادة المعارضة الليبية يوم السبت الماضي (20 آب 2011)، ينتهي في بنغازي، حتى بدأت ملامح عملية «فجر عروس البحر» تتمظهر على نحو أوضح؛ فعلى ما يبدو، كان إعلان فيلتمان أن «أيام الزعيم الليبي معمر القذافي الباقية في الحكم معدودة»، بمثابة الضوء الأخضر الأميركي لنهاية العقيد المتحصّن في باب العزيزية بجنوب طرابلس. كيف لا والدبلوماسي الأميركي متخصص بشؤون الشرق الأوسط وخبير في أمور التدخل بقضايا عديد من الدول العربية. على وقع أصوات القذائف وأزيز الرصاص وهدير أصوات طائرات «الأطلسي»، كانت «عروس البحر» على موعد مع عشيق جديد لم تشهد الهضبة الأفريقية له مثيلاً منذ 42 عاماً، قضتها في أحضان زعيم متسلّط لم يسمح لها بالنظر إلى ما وراء الشاطئ والصحراء.
كان الثوار يعدّون العدة منذ أيام بتأمين أبرز الممرات الاستراتيجية التي تؤدي إلى العاصمة المقموعة بالرعب والخوف، فخاضوا أصعب المواجهات للسيطرة على بلدتين على جانبي العاصمة، هما الزلتان والزاوية (50 كيلومتراً غربي طرابلس)، بعدما تمكنوا من الاحتفاظ بمصراتة (200 كيلومتر شرقي طرابلس) لأشهر رغم شدة الحصار. وبعد ستة أشهر من اندلاع ثورة «17 فبراير» وعمليات الكر والفر، اقتربت المعارضة المسلّحة وقوات جيش التحرير الذي أسّسه المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي (شرق) من معقل الزعيم الحصين، وباتوا قاب قوسين أو أدنى من «هتك» محرمات السلطة.
وبعد نجاح الثوار في قطع طرق الإمدادات إلى العاصمة، ولا سيما أن مصفاة الزاوية تمثّل أهم رافد الوقود لطرابلس، تحركت الجماهير الليبية داخل طرابلس كاسرة حاجز الخوف لتتماهى مع تقدم المقاتلين الآتين من الشرق (بنغازي وكافة المناطق التي كانت تحت سلطة المعارضة) والغرب (جبل نفوسة بالقرب من الحدود التونسية) والبحر (القادمون من مصراتة). وأصبحت قوات القذافي إلى الغرب من الزاوية وبالقرب من الحدود التونسية محاصرة فعلياً ومنعزلة عن خطوط إمداداتها الرئيسية.
وغداة ليلة ليلاء شهدتها طرابلس التي بقيت ساهرة حتى الفجر بانتظار الفاتحين، وأمام شاشات تلفزيون السلطة الذي كان ينقل خطاب سيف الإسلام نجل الزعيم الموعود بالعرش،وهو يتعهد بالقتال حتى آخر رجل ليبي، كانت شوارع طرابلس تلتهب بشعارات المتظاهرين ضد النظام وحمم الرصاص المنطلق نحو السماء فرحاً بليلة رمضانية تعيد أمجاد فتح مكة من التاريخ الإسلامي في ذكراها السنوية. لم تكن كل المحادثات السريّة والعلنية التي كانت ترتفع أصداؤها في وسائل الإعلام سوى أساليب لتقطيع الوقت وحمل المفاجآت.
فالطريق إلى جربة التونسية لم تعد سالكة أمام أنصار النظام الذين يقصدونها بهدف التباحث مع قيادات من المعارضة، بعدما قطعها الثوار، الأمر الذي آذن بتحرك آلاف العناصر المتطوعين لتحرير البلاد نحو طرابلس من جميع الجهات، فكان الهدف الأول ثكنة تابعة لكتيبة خميس التي يقودها أحد أبناء القذافي، والسيطرة على ما فيها من أسلحة وعتاد، فيما كانت سيطرتهم قد تمت بالكامل على عدد من أحياء المدينة مثل تاجوراء وسوق الجمعة.
وإثر خطاب صوتي متلفز من بين 3 خطابات في 24 ساعة شكك المراقبون بصحة توقيتها، كان القذافي يهاجم الثوار ويصفهم بالخونة والجرذان، مستخدماً شعار «الصليبيين» لتأليب الجماهير على حلف شمالي الأطلسي.
وبعد يوم رمضاني حافل بالمواجهات، كان الثوار قد وصلوا إلى فندق «ريكسوس»، ذي النجوم السبعة، حيث تحدث قبل ساعات قليلة رئيس الاستخبارات عبد الله السنوسي، إلى الصحافيين متهماً «الاستخبارات الغربية والحلف الأطلسي بالعمل مع القاعدة لتدمير ليبيا».
المفاجأة كانت في هذا الفندق الذي يقيم فيه صحافيون غربيون، حيث كان صيد الثوار الثمين. سيف الإسلام القذافي هناك، وقد وقع في أيديهم. وتضاربت المعلومات مع تقدّم ساعات الليل حول القبض على نجل آخر للقذافي، كان الابن الأكبر محمد الذي سلّم نفسه طوعاً، لمعرفة المعارضة بعدم تدخله بالسياسة طوال حياته.
قوات «الأطلسي» كما يحب أن يسميها الليبيون من معارضة وموالاة، كانت تمهّد الطريق أمام الثوار بقصف المراكز الحساسة، فقصفت مركز الاستخبارات والعديد من المنشآت داخل حصن باب العزيزية، فيما كان المتحدث باسم السلطة يتحدث عن سقوط مئات القتلى الليبيين وجرح الآلاف من دون أن ينكر حقيقة التحولات التي تعيشها البلاد.
لقد كانت ليلتا السبت والأحد عيداً سبق يوم «الفطر السعيد»، بما حمله من فرح للجماهير التي عبّرت عن سخطها من النظام السابق وفرحها بالآتين من المجهول، من خلال دوس كل رموز «ملك الملوك» و«قائد الثورة» الذي لم يتح لهم يوماً أن يتمتعوا بثروات بلادهم بفرض «تابُوات» تمنع حصول التغيير إلّا على أنقاض الجثث. «فجر عروس البحر» لاحت علاماته مساء السبت وتحقق الحلم فجر الاثنين، مع سقوط الجزء الأكبر من طرابلس والمناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، فيما بقي قائد ثورة الفاتح من سبتمبر يدور في متاهته المجهولة.