تأخرت معركة طرابلس ستة أشهر. فالانتفاضة التي انطلقت شرارتها الأولى في 17 شباط الماضي كان يراد لها أن تنتقل بسرعة إلى العاصمة الليبية لتجبر العقيد القذافي على الرحيل. وبدا خلال الأيام الأولى أن هذا الاحتمال وارد، وأن هناك خطاً مباشراً ستأخذه الأحداث وفق ما سارت عليه الثورتان الشعبيتان في تونس ومصر. ومن خلال ردود فعل القذافي المرتبكة، كاد هذا السيناريو أن يتحقق خلال الأسبوعين الأولين. وحينما اشتدت الهبة الشعبية في كل المناطق، باستثناء طرابلس، تقدمت العديد من الأطراف بوساطات ومبادرات كان هدفها تجنيب القذافي الحصار في العاصمة، وجرت مفاوضات من أجل تأمين خروجه، ولكن ابن الخيمة القادم من الصحراء عكس اتجاه الأحداث، واستعاد المبادرة بسرعة. استوعب الصدمة الأولى، وشرع في شنّ هجوم مضاد، ونقل المعركة الى كل جزء من ليبيا عدا طرابلس. وقبل أن يتدخل الحلف الأطلسي، كانت كتائب القذافي تتقدم نحو عاصمة الشرق بنغازي التي سقطت بأيدي خصومه منذ الأسبوع الأول، وتحولت الى مركز للمعارضة.وفي الوقت الذي كان فيه القذافي يبدو أنه على وشك الهزيمة، كان يلعب لعبة متعددة الأوجه، مستفيداً من قدرة كبيرة على المناورة ومن خلاصات دروس استوعبها، وهي تتوزع بين حروب خاضها في الداخل، والنزاعات التي جرت في جواره في تشاد والسودان وبلدان أفريقية أخرى مثل الكونغو.
في الداخل استطاع العقيد أن يستولي على ثورة الفاتح، من خلال سلسة طويلة من التصفيات بدأت برفيق مجلس الثورة الرائد عمر المحيشي ولم تقف عند إقصاء وتغييب عبد السلام جلود الذي كان يوصف بالرجل الثاني، وتحجيم رفاق يحظون بالصدقية من وزن العقيد أبو بكر يونس. وفي الخارج تمكّن القذافي من أن يخترق القارة الأفريقية، وبالمال وحده صار طرفاً ووسيطاً في سلسلة الحروب الداخلية التي عاشتها أفريقيا خلال العقد الأخير، ويتمثل ذلك على نحو صريح في نزاع دارفور المركب. ورغم أساليب التمويه الكثيرة، فإنه ظهر كالممثل الرئيسي الذي يقف خلف الستارة ويحرك الدمى على خشبة المسرح، فأشعل أكثر من مواجهة ورعى أكثر من مصالحة بين حاكمي تشاد إدريس ديبي والسودان عمر البشير.
أراد العقيد أن يسقط عن الانتفاضة الليبية صفة الحركة الشعبية وأن يحولها إلى حالة تشادية سمتها الرئيسية انشقاق في أوساط الحكم وتمرد مسؤولين سابقين، ولا سيما أن خصومه الفعليين كانوا من بين أقرب أعوانه من أمثال وزير العدل مصطفى عبد الجليل ووزير الداخلية عبد الفتاح يونس، وقامت لعبته على عدة ركائز؛ الأولى تشتيت شمل خصومه، وهنا لعب على استنفار كافة العصبيات، وخصوصاً منها إحياء نغمة التقسيم بين شرق وغرب، وقبائل موالية ومنشقة، وتمكن من أن يحدث شرخاً كبيراً ساعد في تحييد قسم كبير من القبائل التي سارع بعضها إلى نجدته، وخصوصاً من حماه القبلي في سرت وسبها، ولكنه لم يتمكن من اختراق فعلي في الشرق، يجعل منه محل إجماع من جديد ويظهر خصومه على أنهم حالة هجينة قابلة لأن تخبو أمام قدرة العقيد على خلط الأوراق.
الركيزة الثانية هي محاولة تجييش الليبيين من حوله بوصفه شخصية وطنية فوق كافة الشبهات ويرمز الى الاستقلالية ويمثّل على الدوام ضمانة لبقاء ليبيا عامل استقرار داخلي وإقليمي ودولي، فنسب إلى خصومه أنهم خليط من اتجاهات إسلامية متطرفة، وظل يحذر على مدى أسابيع من اختراق تنظيم القاعدة للانتفاضة الشعبية، ونجح العقيد في جعل هذه الفزاعة قضية عامة. حتى إن مخاوف واسعة سرت لدى أطراف دولية وعربية من أن يكون بديل القذافي قوى إسلامية متطرفة، الأمر الذي استدعى تخفيف منسوب الحملة العسكرية الأطلسية ضد قواته التي تمكّنت بفضل ذلك من الخروج من منطقة الغرب لتستعيد مواقع أساسية في جهات أخرى في الوسط والشرق. وبينما كانت المواجهات تدور في شهر آذار على بعد 100 كيلومتر عن طرابلس، انتقلت بسرعة الى محيط بنغازي التي كانت وشيكة السقوط بيده. وفي هذه الأثناء، كان الغربيون يدرسون على الأرض تركيبة المقاتلين وتوجهاتهم، واضطروا إلى أن يدربوا مقاتلين جدداً، وإعادة تأهيل قوى المعارضة السابقة من أجل خلق توازن يحرم الإسلاميين شرف تصدّر المعركة وحصاد مجد إسقاط العقيد.
أما الركيزة الثالثة فهي أن العقيد قاد المعركة وفي ذهنه فكرة واحدة، وهي أنه الرقم الصعب في المعادلة، ومهما بلغ خصومه من قوة ودعم أطلسي يظل هو المقرر لما يمكن أن تكون عليه صيغة ليبيا المستقبل. ومن أجل ذلك استنجد بوساطات من كافة الاتجاهات، تركية، روسية، أفريقية، عربية، فرنسية.
وفي الوقت الذي كان يقاتل ويصمد ويحقق انتصارات ميدانية، كانت طرابلس وجربة التونسية وباريس، وعواصم أفريقية، تتداول مبادرات بشأن تسوية. وكانت الأسئلة المطروحة طيلة الأشهر الثلاثة الماضية تدور من حول تسوية بوجود العقيد أو من دونه، ببقاء العقيد في ليبيا من دون صلاحيات أو برحيله نهائياً، بوجود أولاده كشركاء في الحكم أو من دون أي فرد من أسرته؟ كان العقيد يحرك أحجار الشطرنج من الخيمة وهو يعمل ميدانياً بكل ما أوتي من قوة، وكان رهانه الرئيسي على تعب خصومه وانقساماتهم وعدم حرفيتهم على المستويين العسكري والسياسي، وتراخي الحملة الأطلسية التي كلفت غالياً، وصارت حماسة بعض أطرافها تفتر.
والركيزة الرابعة في استراتيجية العقيد هي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه. ولم يكذّب القذافي وعده بأنه سيقاتل «شبر شبر، وبيت بيت، وزنقة وزنقة». ويقول خبير من الأمم المتحدة في الشؤون الإنسانية رافق الوسيط الدولي عبد الإله الخطيب في عدة زيارات إلى ليبيا، إن حجم الدمار الذي لحق بليبيا يفوق الوصف، فثمة مدن ومنشآت وبنى تحتية دمرت إلى حدود 80 في المئة، ولم يراع العقيد أي اعتبار هنا، كأن لسان حاله يقول سأترك ليبيا بعدي كومة من الأحجار.
غلطة العقيد
ركن العقيد إلى وهم إثارة الرعب من حجم الدمار الذي سيخلفه، وكان يظن أن هذه الورقة ستتحول إلى عنصر ضغط لمصلحته، وخصوصاً إلحاق الضرر بالمنشآت النفطية. ولكن القوى الأطلسية كانت تنظر إلى هذا السلوك الانتحاري نظرة مختلفة. ذلك أن مئات الشركات الأميركية والأوروبية والروسية والتركية والخليجية تستعد لتوقيع عقود إعادة الإعمار. ويؤكد خبير الأمم المتحدة صحة المعلومات التي جرى تداولها في الإعلام عن اتفاق بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ووفد من المجلس الانتقالي على حصة من النفط الليبي مقابل إسقاط العقيد. ويقول الخبير إن الأمم المتحدة لمست مصلحة غربية في تدمير البنى الليبية، لأن ذلك يعطيها فرصة لفتح ورشة إعمار كبيرة.
وتقدر الأمم المتحدة الخسائر بأكثر من مئة مليار دولار، تتركز في قطاعات النفط والمواصلات، والصحة، والبنى التحتية. ويؤكد الخبير أن النفط الليبي بات مرهوناً لدى الأطراف الأطلسية، بينما المدّخرات الليبية في الخارج ستكرّس لدفع فاتورة الحرب، من صواريخ وعتاد حربي وتمويل للمعارضة.
ليبيا بعد القذافي
ثمة من يقارن ليبيا بعد العقيد بالعراق بعد صدام حسين، ذلك أن الليبيين لن يكونوا أصحاب القرار، وسيجدون أنفسهم مكبّلين بالتزامات ثقيلة، ولن تكون لديهم قدرة على التفلّت منها في الوقت الحاضر. فالنصر الذي تحقق على العقيد هو من صنع الأطلسي أولاً، ولن يمرّ ذلك من دون تسديد الثمن لكل من أسهم في الحملتين السياسية والعسكرية.
ومن جهة أخرى، يسود الاعتقاد في أوساط خبراء غربيين أن المسألة الأمنية سوف تحتل مكانة أساسية في ليبيا المستقبل. ورغم أن الأطلسي أطلق على حملته اسم «فجر الأوديسة» تيمناً برجوع المحاربين الإغريق إلى «ايثاكا» بعد انتصار طروادة، فليس هناك إشارات إلى عودة الأطلسي إلى قواعده بعد رحيل العقيد، وهناك سيناريوات يجري تداولها في الدوائر الأمنية الأطلسية، منها تحويل ليبيا إلى قاعدة أطلسية. ويؤكد معارضون تونسيون تابعوا تطورات الحدث الليبي أن الثمن الذي ينتظر الأطلسي أن يجنيه من حملته العسكرية كبير، وهناك تخوفات كبيرة من أن تصبح ليبيا قاعدة الأطلسي الأساسية في أفريقيا، وخصوصاً لجهة الحرب على الإرهاب في منطقة شمال أفريقيا، التي شهدت خلال العامين الأخيرين ولادة تشكيلات قتالية لتنظيم القاعدة في موريتانيا ومالي وبعض بلدان الصحراء الأفريقية مثل النيجر. وما يزيد من رجحان هذا السيناريو هو أن القذافي شارك بفعالية خلال السنوات الأخيرة التي تلت تنازله عن البرنامج النووي في الحملة الغربية ضد الإرهاب، وجعل من ليبيا سدّاً منيعاً في وجه الهجرة الأفريقية نحو أوروبا.
معركة طرابلس هي نقطة الفصل في مسيرة العقيد القذافي الذي كان يستعد للاحتفال بعد أسبوع بالذكرى الثانية والأربعين لثورة «الفاتح» من أيلول التي أوصلته إلى الحكم. ولكن الإيقاع السريع للأحداث، واقتراب المواجهة من حصنه الأخير، ربما حرماه من نشوة المجد الأخيرة.



عبد السلام جلود

الرجل الثاني السابق في النظام الليبي عبد السلام جلود، موجود حالياً في إيطاليا، حسبما أكد وزير الدفاع الإيطالي إيناسيو لاروسا أمس.
أهمية الرجل تكمن في تاريخه السياسي الحافل ومسيرته الطويلة مع نظام الحكم في ليبيا منذ انتصار ثورة الفاتح من أيلول عام 1969 على الملكية السنوسية.
جلود الذي تمكن يوم الجمعة الماضي من الفرار من العاصمة طرابلس، وصل مع أسرته الى تونس وتوجه منها فجر السبت الى إيطاليا، بحسب مصادر تونسية رسمية. وجلود كان من أقرب القريبين من الزعيم الليبي معمر القذافي، واعتبر لوقت طويل الرجل الثاني في النظام قبل أن يتم استبعاده اعتباراً من العام 1990.
وهو من مواليد 1941، وتولى منصب رئيس الوزراء بين عامي 1972 و1977 والعديد من المناصب الرسمية وخصوصاً نيابة رئاسة الوزراء ووزارتي المال والصناعة.
(أ ف ب)