كركوك | «نعم، شاركت في معركة مطار بغداد (نهاية آذار بداية نيسان 2003)»، يقول عمر (أبو حمزة) بعد طول تهرّب ومراوغة، «قاتلنا الأميركيين وكانوا يفرون، وبعدها استخدموا قذائف الفوسفور والغاز والكيماوي، حتى تمكنوا من السيطرة على المطار». ثم يضيف: «لم نتخل عن المقاتلين العرب، وحدهم البعثيون هربوا من ميدان القتال، ونحن سحبنا المقاتلين العرب، وبعضهم عاد إلى بلاده، إلا أن عدداً كبيراً منهم بقي معنا، واستشهد من استشهد لاحقاً في أعمال المقاومة، ولا يزال العديد منهم بيننا إلى اليوم».
يتوقف الشاب عن الكلام بعد أن يحذره والده السبعيني باللغة الإنكليزية، قائلاً: «لا تتحدث يا عمر، هذا الكلام خطير». ثم ينظر الوالد بوجهه المتجعد إلى سقف دارته الطينية والممدودة بالقصب والحصر والواقعة على مدخل الحويجة، ويقول: «نحن أناس فقراء جداً، ولكننا أغنياء بالوطنية، ولكن الكلام خطير ولا طائل منه».
على مسافة 250 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي من بغداد، تقع محافظة التأميم، أو كركوك، كما باتت تسمى اليوم. وللوصول إليها يجب عبور محافظتي ديالى وصلاح الدين، أو ديالى والسليمانية. والمحافظة الأخيرة هي منطقة خليط من الأعراق والمذاهب؛ ففيها التركمان والأكراد والعرب.
وفي الوسط من التأميم تقع مدينة الحويجة، التي يرغب أبناؤها في أن تكون مركزاً منافساً لكركوك، ولكن في الواقع لا يرى زائرها أكثر من مدينة منهكة، شيدت في الثلاثينيات من القرن الماضي بعد شق مجرى مائي كمشروع لري زراعي وأُقيمت المدينة على أطرافه، كغالبية المدن العراقية المقامة على ضفاف الأنهر. معظم مبانيها تقوم على طبقة واحدة، والنادر منها بطبقتين، وقد تلاشى الطلاء عن البيوت، بينما في النواحي القريبة من أسواقها انتشرت بيوت الطين أو اللبن.
السلطات الرسمية تشير إلى أن المنطقة هادئة حالياً، ولكنها خطرة، وفيها مقارّ حكومية وحواجز متعددة، ككل المناطق والطرق العراقية، ولكن السكان يرون أن الوضع آمن في مدينتهم، وفي مختلف مناطق القضاء. أما العراقيون من المحافظات الأخرى فيرون أن الذهاب إلى تلك المناطق ضرب من الجنون.
يوم 23 تموز من العام الحالي حاولت مجموعة مسلحة اختطاف بروفيسور في طب الأطفال في مدينة كركوك، الرجل كان يخصص يومين في الأسبوع لمعاينة الأطفال مجاناً في المدينة الفقيرة والقرى المحيطة، وحين حاول المسلحون اختطافه قاومهم وجرح شاباً منهم، فأطلقوا عليه النار من أسلحة كاتمة للصوت وقتلوه على الفور.
كواتم الصوت هي الأسلحة التي باتت بين أيدي جميع الميليشيات والقوى في العراق، وتمثّل علامة فارقة في المرحلة الحالية. أصبح اليوم هناك مصانع لكواتم الصوت موجودة في ورش أعمال الصيانة والحدادة، وترد كل بضعة أيام في التقارير السرية لوزارة الداخلية فقرات تتحدث عن اكتشاف مصانع لكواتم الصوت، في الغالب لدولة العراق الإسلامية ـــــ تنظيم القاعدة، وأحياناً لأطراف أخرى.
مقتل طبيب الأطفال، وأسلوب العمل، ومكان وقوعه، يدفع العديد ممن تلتقيهم للقول إن من يقف خلف العملية هو دولة العراق الإسلامية ـــــ تنظيم القاعدة، محاولة اختطاف فاشلة أولاً، أدت في النهاية إلى تصفية الرجل وتركه على الأرض.
اليوم التالي، أي في 24 تموز، قتلت مجموعة مقنعة صاحب استراحة على الطريق السريع في وضح النهار، والرجل من العرب السنة، ولا مبرر لقتله، فراحت تدور التكهنات في المنطقة: ربما قتل لعدم دفعه جزية (إتاوة) لدولة العراق الإسلامية، أو قتله الأكراد في إطار منافسة تجارية. وتكثر التكهنات إن لم تكن السيارة المستخدمة من سيارات دولة العراق الإسلامية المفضلة. ولكن النتيجة أن الموت واحد. إلا أن الذين يعرفون أساليب عمل دولة العراق الإسلامية، وهم سبق أن كانوا مقاتلين في صفوفها، يقولون إن العمليتين من تنفيذ الدولة وتنظيم القاعدة.
وعلى الطريق الواصل ما بين الحويجة وسامراء، مروراً بتكريت وقبلها بمصفاة بيجي، كان مقاتلو الدولة الإسلامية في العراق يفجرون سيارة بعبوة لاصقة مساء يوم 24 من تموز، وعلى مسافة مئات قليلة من الامتار من موقع ضخم للجيش العراقي، ثم يطلقون النار في كمين مركب. إلا أن ذلك لا يعني إن الوضع خطر في المنطقة، ولكنه فقط دقيق وحذر.
الحويجة شأنها شأن الموصل، وجزئياً كركوك، هي من المناطق العاصية إلى حد ما. على طرف المدينة يستوقفنا آخر حاجز للجيش العراقي ليدقق في هوياتنا، وقبل السماح لنا بالدخول إلى المدينة يجري اتصالاً بقيادته لإبلاغها بوجودنا. ولسبب ما، يفضل الضابط أن يجري الاتصال من هاتفه، لا من أجهزة اللاسلكي، «لتسريع الأمر» يقول الضابط. إلا أنه يلاحظ نظرة الشك، فيقول: «المنطقة لا يزال فيها عناصر من القاعدة، ومن فترة قريبة كانوا يمثّلون خطراً في المنطقة. اليوم الوضع أفضل، ولكن...». أحد العراقيين يشير إلى أن أجهزة الإرسال اللاسلكية خاضعة للمراقبة، الله وحده يعلم من يتنصت على هذه الأجهزة.
بعيد سقوط بغداد لم تشهد منطقة كركوك أعمالاً لافتة للاحتلال، فقط تجمع مئات من الأكراد واستولوا على مراكز الدولة وأفرغوها من محتوياتها بحسب ما يقول السكان، ثم بدأت عمليات السطو على السيارات المارة وعلى المنازل، ولم يعلم أي من السكان أكان الأمر من تنظيم الحزبين الكرديين أم مجرد لصوص مسلحين يرتدون ثياب البشمركة الكردية. وفي كل الأحوال، نظم الفلاحون وأبناء العشائر أنفسهم، ودافعوا عن مناطقهم بما تيسر من عصي وأدوات زراعية وأسلحة نارية متوافرة، ثم راحوا يكتشفون مراكز تجميع الأسلحة للنظام السابق، وبعدها صاروا أكثر تسلحاً وأكثر قوة في الدفاع عن مناطقهم. ولما دخلت القوات الأميركية في منتصف شهر أيار من عام 2003 (أي بعد نحو شهر ونصف من سقوط بغداد) كان الفلاحون لها بالمرصاد. «اعتقدناهم من اللصوص الأكراد الذين استولوا على أسلحة الجيش العراقي وأتوا إلينا لينتقموا منا، فاطلقنا النار عليهم»، يقول رجل عجوز من القرى القريبة من الحويجة.
إطلاق النار غير المقصود باتجاه القوات الأميركية لن يتكرر في المنطقة؛ إذ سيتحول إلى إطلاق عن سبق الإصرار والترصد. الحويجة ستستمر بإطلاق النار على قوات الاحتلال في الأعوام المقبلة، وستكون أول عملية في منطقة البريمة عبرة للسكان، شارك فيها 9 من الشبان، هؤلاء كانوا من الفارين من الخدمة العسكرية في عهد صدام، ولكنهم ـــــ لكثير من الأسباب ـــــ استبسلوا في تأمين استطلاع ومعدات لتنفيذ عمليتهم. وبحسب رواية السكان، أدت هذه العملية إلى تدمير رتل أميركي من 13 سيارة هامفي وفرار آلية تحمل خزاناً، وقتل 53 أميركياً وسبعة من المقاتلين المشاركين.
«لم يكن تنظيم القاعدة قد ظهر بعد. كانت المقاومة مجرد شبان يقاتلون خارج المدن والقرى وينصبون كمائن للأميركيين»، كان العديد من شبان المنطقة قد شاركوا في معارك سابقة ضد الأميركيين، أو أُهينوا وهم يشاهدون دخول الأميركيين إلى عاصمة بلادهم بلا قتال. أو بعضهم، كما عمر (أبو حمزة)، قد شارك في معارك جدية. ثم بدأ العمل يأخذ شكلاً أكثر تنظيماً.
إلا أن أبناء المنطقة الذين يتحدثون اليوم عن تنظيم القاعدة وظهوره بينهم يرون أنه تحول ـــــ أو أنه من البداية كان ـــــ في خدمة الأميركيين، حين راح يهدر الدم العراقي.
يتحفظ الشبان في المنطقة عن التصريح بانتمائهم، ورغم أن في المنطقة العديد من الشبان الذين يرخون لحاهم ويحفون شواربهم، إلا أن هؤلاء من السلفية المرجئة (كما يلقبون هنا) «هؤلاء الذين تشاهدهم في الأسواق من شباب السلفية يرسلون الرسائل القصيرة عبر الهاتف طالبين الالتزام بطاعة ولي الأمر، اي المالكي»، يقول أحد المقاتلين الحاليين في صفوف إحدى القوى المقاومة في العراق.
أما السلفية الجهادية وقوات تنظيم القاعدة، فالكل ينكر صلته بها، بل يذهبون إلى القول: «كانوا كالأشباح، يتحركون من دون أن نراهم»، ولكن ليست هذه العبارات إلا لحماية النفس، فمعرفة سطوة التنظيم في المنطقة يمكنها أن تدل على حجم المقاتلين الذين احتواهم التنظيم في أيام عمله واشتداد شوكته ما بين عام 2004 و2009.
من يحدثك هو نفسه كان من المقاتلين الأشداء في تنظيم القاعدة، ومن ثم تحمس لدولة العراق الإسلامية، وقاتل بصفة قيادي ميداني لمصلحة هذه الدولة الإسلامية، ولكنه كان يشاهد 10 عمليات تقع كل يوم على موقع الأميركيين على مدخل الحويجة، ما بين قصف هاون وعبوات ناسفة، وإطلاق نار، وكمائن لدوريات تخرج من الموقع، بينما كانت حصة تنظيم القاعدة، ولاحقاً دولة العراق الإسلامية، من هذه العمليات تقارب صفراً.
وفي قطاع الحويجة من محافظة كركوك قطع تنظيم القاعدة 4000 رأس، بحسب مسؤول إحدى الجمعيات الأهلية، واشتبك عدة مرات مع القوى الأخرى الموجودة: الجيش الإسلامي، جيش الرافدين، كتائب ثورة العشرين، جيش محمد، جيش النقشبندية، جيش الفاتحين، وغيرها من القوى في المنطقة. وتمكن من تجنيد آلاف من العراقيين في المنطقة للقتال إلى جانبه، وأغرق الشبان العاطلين من العمل بالمال، ومن بين آلاف الشبان الذين يقفون اليوم على حواجز قوات الصحوات، فإن أربعة من كل عشرة على الأقل كانوا في الأعوام القليلة الماضية يقاتلون إلى جانب القاعدة.
ويروي أحد شهود العيان عن فرار تسعة من رجال الشرطة العراقية المسلحين ببنادق كلاشنيكوف إلى منزله، ولجوئهم إليه، مستجيرين من مراهق يحمل مسدساً ويلحق بهم، وحاول تصفيتهم حتى داخل منزل الرجل، الذي أبى تركه يتعرض للعناصر اللاجئين. طالب المراهق بتسليمه الشرطيين الهاربين باسم دولة العراق الإسلامية، فرفض صاحب المنزل، وتمكن من تخليصهم. كانت تلك ذروة السطوة حين لا يجرؤ رجال حاملون بنادق رشاشة على مواجهة مراهق يحمل مسدساً.
فرض تنظيم القاعدة الخوف على السكان، وأقام محكمة شرعية، وراح أحد أمراء التنظيم يتصل بالمطلوبين، ويبلغهم بلكنته العربية ضرورة ملاقاته للمثول أمام المحكمة الشرعية بتهم مختلفة. طبعاً، أغلبها التعامل مع الاحتلال. ولم يعد أحد من المحكمة الشرعية، بل عثر على رؤوسهم مقطوعة لاحقاً في أنحاء متفرقة. فلم يعرف أي كان ماهية المحكمة ومن يقف خلفها وطبيعة إجراءاتها.
تمكن التنظيم من إحباط عمليات المقاومة في المنطقة، بعدما اضطر الجيش الأميركي إلى سحب موقعه على مدخل الحويجة إلى مكان قصي، بحسب السكان، بينما لم يكن تنظيم القاعدة يعلن تنفيذ عمليات ضد الأميركيين في المنطقة. «لربما كان هناك مندسون حرفوا التنظيم ولاحقاً دولة العراق الإسلامية عن أهدافهما، ولكن لم يستنكر مرة التنظيم على مواقعه هذا الانحراف. وللحق، إن تنظيم القاعدة قتل منا نحن أهل السنة أكثر بكثير مما قتل من الشيعة أو غيرهم»، يقول أحد الشبان الذي يوحي حديثه بأنه عمل في بدايات الاحتلال إلى جانب تنظيم القاعدة قبل أن يتخلى عنه.
اليوم تحول فعلاً تنظيم القاعدة إلى شبح في المنطقة، رجاله موجودون، ولكن لا أحد يجرؤ على الكلام، يمكن انتقاد التنظيم بالشكل العام، ولكن لا أحد يذكر أسماء من قاتلوا في الماضي أو من يقاتلون اليوم إلى جانب التنظيم. وكما في كل المناطق، قيادات هذا التنظيم غير عراقية، بينما مقاتلوه من العراقيين «حين يأتون يحملون معهم المال، ما يمكنهم من القيادة»، يقول أحد العارفين بأحوال التنظيم في محافظة كركوك، ويضيف: «إلى جانب الأسلحة التي استولوا عليها من الجيش العراقي السابق، ظهرت معهم أسلحة حديثة، على الأرجح جرى تهريبها، وكل الحدود مفتوحة أمامهم».
وبحسب العديد من السكان، فإن دافع تعاون العشائر والسكان مع القاعدة هو الخوف، والبعض يقول إن التنظيم اجتذب الشبان العاطلين من العمل، وغير المتعلمين، وراح يضرب روؤس الكوادر والأطباء والمتعلمين في المنطقة، وهو ما مكنه من بث الرعب والسيطرة على المنطقة.
إلا أن محاولة السكان الصمت عما حصل، والخوف من الحديث عن أعوام سطوة التنظيم في محافظة كركوك لا تبشر بالخير، بل تبدو أقرب إلى نظرة الضابط الواقف على مدخل الحويجة، وهو يقول إن «القاعدة لا تزال موجودة... منذ فترة قريبة كانوا يمثّلون خطراً»، بينما هو يعتقد في العمق أن ما يحمله الليل القريب مجهول تماماً. إلا أن بالتجول والحديث مع السكان هنا يمكنك أن تستشف ما يحصل: التنظيم هنا، حولك، يراقبك ويعيش معك، وهو اليوم يراعي مصالح السكان على قاعدة الصمت المتبادل، وتوازن من الرعب، لا نقتل من المدنيين إلا الضروري، ولا تبلغون عن وجودنا إلا بما ندري، وأي إخلال بهذه المعادلة سيعيد الجنون إلى أرض كركوك، وربما كل العراق.



توقعات مستقبلية

في دراسة أعدتها أجهزة الأمن العراقية في الأعوام الأخيرة، توقعت تحول عمل تنظيم القاعدة وتناميه على النحو الآتي:
1ــ تنامي الإرهاب السلفي بين أبناء المنطقة الغربية والوسطى نتيجة غياب التوعية الدينية، وبسبب دور الإعلام.
2ــ تسلّل عناصر الإرهاب إلى أجهزة الدولة ومرافقها من خلال تغيير بعض الحركات لاستراتيجيتها، إمّا بالدخول بغطاء العملية السياسية، أو من خلال مبدأ السلفية الخطير (الاختفاء والاستضعاف)، ومن ثم الإعداد.
3ــ ازدياد الخبرة العسكرية (القتالية والتنظيمية) لبعض الميليشيات.
4ــ خطورة حصول الميليشيات الإرهابية على تقنيات تسليحية متطورة، وليست هناك أدلة على هجمات من هذا النوع، ولكننا نعتقد بمحاولات المجاميع (المجموعات) الإرهابية للحصول على أسلحة كيميائية وبيولوجية، ما يتطلّب تكثيف الجهود الاستخبارية لمنع حصول ذلك.
5ــ استمرار ضرب البنى التحتية لإضعاف الحكومة وخلق حالة من الاستياء
والفوضى.