حالة من القلق الشديد تنتاب الطبقة الحاكمة في بغداد. ما يحصل في وسط العراق وجنوبه ليس تفصيلاً عابراً. تظاهرات تزداد زخماً يوماً بعد يوم. ترفع شعارات مطلبية تمسّ حياة كل مواطن عراقي. تظاهرات لا أطر تنظيمية لها يمكن التحكم فيها، وبات واضحاً أنها باتت تهدد من جهة الأحزاب الإسلامية بإخراجها من السلطة، ومن جهة أخرى تحولت إلى موجة تركبها بعض الأطراف المستاءة من أداء رئيس الوزراء حيدر العبادي لإطاحته.
صحيح أنه سبق أن شهد العراق تظاهرات مطلبية، كان آخرها، قبل الموجة الحالية، تلك التي شهدتها البصرة، لكنها تظاهرات كانت منظمة من قبل أحد الأحزاب المشاركة في كعكة السلطة، وكانت تخفي خلافات على تقاسم السلطة والثورة، سرعان ما يؤدي التفاهم بشأنها إلى سحب المتظاهرين من الشارع. في تظاهرات البصرة المذكورة، كان الخلاف بين «منظمة بدر» المستاءة من رفض «المجلس الأعلى»، الذي يتولى رئاسة مجلس المحافظة، إعطاءها حصة من المنافع، رغم أن للمنظمة تسعة أعضاء في المجلس، ما دفعها إلى تحريك الشارع بعناوين مطلبية ضد المحافظ الذي لا يختلف اثنان على أنه فاشل.
لكن ما يحصل منذ 31 تموز الماضي أمر مختلف تماماً. تظاهرات تحركها منظمات مجتمع مدني هي أصلاً خارج المنظومة الحاكمة. التعامل معها في البداية كان كالمعتاد: اتهام المشاركين بأنهم بعثيون وصداميون ومن مخلفات النظام السابق، لكنها حجة لم تنفع. واقع الحال في العراق جعل الناس تهبّ تلقائياً للمطالبة بحقوقها المهدورة. درجات حرارة خيالية ورطوبة بأرقام قياسية، وفي الوقت نفسه لا كهرباء ولا ماء في المنازل. تظاهرات البصرة سرعان ما خرجت عن السيطرة، وتمددت باتجاه بغداد، مروراً بالنجف وكربلاء والمثنى وذي قار.

دولة فيها أكثر من أربعة آلاف مدير عام و٧٤٠ وكيل وزارة

بدأت المطالب بالاحتجاج على تردي الكهرباء، رغم نحو ٤٠ مليار دولار صرفت على هذا القطاع خلال السنوات الماضية. لكنها سرعان ما رفعت شعارات مكافحة الفساد وإلغاء مجالس المحافظات، لتطاول المنظومة الحاكمة برمتها، وعمادها الأحزاب الإسلامية، والمطالبة بتعديل حكومي وبإلغاء المحاصصة الطائفية وتشكيل حكومات تكنوقراط.
تظاهرات واكبتها «هجمة فايسبوكية» غير مسبوقة استهدفت شخصين على وجه الخصوص، وإن كانت لم توفر رئيس الوزراء السابق نوري المالكي و«رئيس المجلس الأعلى» عمار الحكيم وغيرهما من قادة العراق: وزير الكهرباء قاسم الفهداوي (من «تحالف القوى الوطنية») ونائب رئيس مجلس الوزراء بهاء الأعرجي (من التيار الصدري). الأول سبب استهدافه واضح، فهو يتولى الوزارة المسؤولة عن أزمة الكهرباء، وإن كان لا يتحملها وحده، فهي مستمرة منذ الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
أما الأعرجي، فهو حكاية بحد ذاته. رمز للفساد والإفساد في العراق، على ما يُتهم، على الرغم من أنه كان يتولى رئاسة هيئة النزاهة التي جمع من خلالها ثروة تقدر بمئات ملايين الدولارات. ولما عُيِّن في حكومة العبادي الحالية، سعى إلى مدّ يده نحو وزارة النفط التي يتولاها القيادي في المجلس الأعلى عادل عبد المهدي. وقتها، وبينما كان الأخير في جولة خارجية، ذهب الأعرجي لتفقد إحدى المنشآت النفطية في البلاد. ثارت ثائرة عبد المهدي وهدد العبادي بالاستقالة إذا كرّر الأعرجي تلك الخطوة، على ما تفيد المعلومات. ما كان من القيادي الصدري إلا أن سحب يده من وزارة النفط وصوب نحو وزارة الكهرباء التي هيمن على استثماراتها. صفحات «الفايسبوك» حافلة بصكوك ملكية عقارات باسم الأعرجي، بعضها في... لندن.
كثيرة هي المؤشرات التي تدل على أن واضع تظاهرات اليوم مختلف عن كل التجارب السابقة. باتت الحديث اليومي للطبقة السياسية. حيدر العبادي اضطر إلى تبني لغة تحاكي لغة المتظاهرين، وذلك حتى قبل الموقف اللافت للمرجعية يوم الجمعة. في هذا اليوم، أكد أحمد الصافي، ممثل المرجعية في كربلاء، أن على حكومة العبادي أن تضرب المتورطين بالفساد بيد من حديد. سبق للمرجعية أن قالت الكلام نفسه أيام نوري المالكي. خطاب انتهى إلى قرار من السيد السيستاني برفض استقبال أي من وزراء حكومة المالكي إلى أن انتهى إلى السقوط من الحكم. لا بد أن العبادي التقط الإشارة، وهو يدرك أن دعم المرجعية له هو الشيء الوحيد الذي يبقيه في الحكم، في ظل عدم رضا كثير من القوى السياسية، يتقدمها الحشد الشعبي، عنه.
بل أكثر من ذلك، يبدو واضحاً أن الأحزاب الإسلامية الحاكمة قرأت أموراً عديدة بين السطور، دفع بها إلى الاجتماع بداية الأسبوع الماضي. اجتماع انتهى إلى قرار بالنزول إلى الشارع لسحبه من بين أيدي منظمات المجتمع المدني التي تحرك التظاهرات. هذا ما دفع، على سبيل المثال، السيد مقتدى الصدر إلى إعلان دعمه مطالب المتظاهرين، على الرغم من أنها تستهدف في الأساس أحد كوادره وممثليه في الحكم. كذلك وضع المجلس الأعلى استقالة وزرائه في تصرف رئيس الحكومة، علّ ذلك يؤدي إلى تهدئة المحتجين. وهو ما يفسر مطالبة هذه الأحزاب لأحمد الشلبي بأن يخوض غمار الشارع باعتباره علمانياً يمكن أن يساعد ضبط الوضع.
مصادر واسعة الاطلاع قريبة من دوائر الحكم في العراق تقول إن التيار الصدري والمجلس الأعلى أول من التقط خطورة ما يجري على الأرض، لكونهما الحزبين الوحيدين اللذين يمتلكان مكاتب في كل أنحاء العراق (خلافاً على سبيل المثال لحزب الدعوة النخبوي البعيد عن نبض الشارع).

باشر العبادي بإعداد قائمة لمتهمين بالفساد يفترض تحويلها إلى القضاء

تقول مصادر في الحزبين إن النشطاء الذين يمسكون بالشارع اليوم هم من التيارات العلمانية المنضوية في إطار آلاف منظمات المجتمع المدني التي أنشاها ودربها ومولها الأميركيون على مدى الخمسة عشر عاماً الماضية. وتضيف أن ما ينادي به المتظاهرون مطالب محقة تحظى بتغطية اجتماعية منقطعة النظير، لكن «الطابة تكبر بشكل مخيف، هنالك نية في خربطة الوضع في الجنوب وضرب الأحزاب الإسلامية» التي يحمّلها المتظاهرون المسؤولية عن كل ما حصل في العراق منذ سقوط النظام السابق. ولعل ما يعزز هذا الحديث، تمدد شعارات المتظاهرين إلى المطالبة بإخراج الإسلاميين من الحكم والحد من النفوذ الإيراني في العراق. تضيف المصادر أنه حراك، بغض النظر عن طبيعته، إلا أنه لا شك يحظى، أو سيحظى، بدعم قوى إقليمية، تتقدمها تركيا والسعودية، تسعى إلى تغيير الوضع القائم في بلاد الرافدين.
المصادر المطلعة تؤكد أن الأميركيين يتهمون الأحزاب الإسلامية (الشيعية) بـ«نكران الجميل» ويحملونها مسؤولية إخراجهم من العراق في عام 2011 ورفض حتى إبقاء قوة رمزية فيه بصفة مستشارين، فضلاً عن كونهم يماهون بينها وبين إيران، ويعتبرون وجودها في الحكم استمراراً للنفوذ الإيراني في بلاد الرافدين. وتضيف المصادر نفسها أن «العراق مقبل على خضّة... هناك مخاوف من حرب أهلية ضمن البيت الواحد».
يوم الجمعة الماضي، عادت الأحزاب الإسلامية المشكلة للتحالف الوطني العراقي إلى الالتئام في اجتماع استغرق أكثر من ١٢ ساعة، حضر العبادي نحو ثلاث ساعات منها. بدا الانقسام واضحاً في ما بينها بين مؤيدي الأخير وبين المستائين منه. تلميحات كثيرة إلى ضرورة إجراء تعديل حكومي يؤدي إلى تغيير رئيس الوزراء. كلام عن ضرورة تسلّم الحشد الشعبي للسلطة باعتباره «الأكثر نزاهة ونظافة وقدم تضحيات جمة دفاعاً عن البلاد في مواجهة التكفيريين». ترافق ذلك مع تصريحات لممثلي منظمة بدر وعصائب أهل الحق معلنة تأييدها للمطالب المشروعة للمتظاهرين ومشاركتهم احتجاجاتهم ضد دولة فيها أكثر من أربعة آلاف مدير عام و٧٤٠ وكيل وزارة.
ضغوط من الشارع تحظى بغطاء المرجعية، وأخرى من شركاء في الحكم يريدون إقصاءه منه، دفعت العبادي إلى رمي الكرة إلى مجلس النواب بقرارات مفصلية اتخذها يوم أمس تحتاج إلى مصادقة تشريعية، تبدأ بترشيق الوزارات وإلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء ولا تنتهي بتقليص شامل وفوري في إعداد الحمايات لكل المسؤولين في الدولة بضمنهم الرئاسات الثلاث وإلغاء المخصصات الاستثنائية لكل الرئاسات والهيئات ومؤسسات الدولة والمتقاعدين، بل بلغ به الحد إلى إقرار «إبعاد جميع المناصب العليا من هيئات مستقلة ووكلاء وزارات ومستشارين ومديرين عامين عن المحاصصة الحزبية والطائفية»، على أن «تتولى لجنة مهنية يعينها رئيس مجلس الوزراء اختيار المرشحين في ضوء معايير الكفاءة والنزاهة بالاستفادة من الخبرات الوطنية والدولية في هذا المجال وإعفاء من لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة». كذلك دعا إلى تشكيل لجنة تعمل وفق مبدأ «من أين لك هذا؟»، مهمتها التحقيق ومحاكمة الفاسدين.
وباشر العبادي، على ما تفيد المعلومات، بإعداد قائمة موسعة لمتهمين في الفساد يفترض تحويلها إلى القضاء، على أن تعطى الأولوية للتحقيق في ستة ملفات هي عقود الكهرباء وصفقة السلاح الروسي وعقود شراء أجهزة كشف المتفجرات وميزانية ٢٠١٤ وسندات الأراضي الوهمية التي وزعت على المواطنين والـ٥٠ ألف عنصر «الفضائي» في الجيش العراقي.
ومع ذلك تبدو القناعة راسخة لدى العديد من الأطراف بأن كرة الثلج المطلبية انطلقت في العراق، وبات من الصعب وقفها أو حتى السيطرة عليها.




الصدر: تظاهرات مليونية دعماً لـ«الإصلاحات»

توالت ردود الفعل السياسية على «الحزمة الأولى للإصلاحات» التي أعلن عنها مجلس الوزراء العراقي عقب جلسته الاستثنائية أمس، وجاء أبرزها من «التيار الصدري» الذي دعا إلى «التهيّؤ للنزول الى الشارع بتظاهرات مليونية».
وخلال مؤتمر صحافي، استند المتحدث الرسمي باسم السيد مقتدى الصدر، الشيخ صلاح العبيدي، في إعلان الموقف الداعم للإصلاحات إلى واقع «الظروف الاستثنائية التي يمر بها بلدنا... ووقوفاً مع المطالب المشروعة». وأشار إلى أنه «إذا لم يتم التصويت من قبل البرلمان العراقي على حزمة الإصلاحات... فإن سماحة السيد القائد أمر بالتهيّؤ للنزول إلى الشارع بتظاهرات مليونية أمام مجلس النواب»، مؤكداً في الوقت نفسه الرفض «المطلق لأي تدخل أجنبي بقرارات حملة الإصلاح الشاملة، خصوصاً من الجانب الأميركي».
من جهة أخرى، كان نائب رئيس الجمهورية، نوري المالكي، قد جدد صباح أمس الموقف «الداعم للإصلاحات التي تقتضيها العملية السياسية، والتي وجهت بها المرجعية الدينية العليا»، فيما رأى حزب «الدعوة» في الإصلاحات «ترجمة عملية لنداء المرجعية الدينية العليا واستجابة صادقة لإرادة المواطنين».
وفي سياق الردود، أعلن نائب رئيس الوزراء، بهاء الأعرجي، أنه توجه إلى الادعاء العام وهيئة النزاهة وطلب التحقيق في تهم عديدة وجّهت ضده، مخاطباً العراقيين بالقول إنّ «أمانتكم ردّت إليكم وسأبقى خادماً لأهلي وناسي».
وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي قد قال خلال الجلسة الاستثنائية إنّ «الأخطاء المتراكمة للنظام السياسي لا تتحمله الحكومة الحالية»، مشيداً في الوقت نفسه «بموقف المرجعية الدينية»، فيما أفادت معلومات صحافية بأنّ ما أعلن سبقه قرار بإحالة 49 ضابطاً برتب مختلفة «إلى الأمرة» في وزارة الداخلية على خلفية قضايا فساد.
(الأخبار)