القاهرة | تأتي إلى القاهرة بعد يوم واحد من فضّ اعتصام الشباب في ميدان التحرير بقوة الجيش المصري وبمشاركة من رجال الشرطة، وقبل يوم واحد من عقد جلسة محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ونجليه علاء وجمال لتكتشف حالة انقسام حادة يعيشها الشعب المصري، قد تبدو غير مفهومة للذين اعتادوا مشاهدة الأحداث عبر ما يُبَثّ على القنوات الفضائية.تعتقد أن المناخ مناسب تماماً للكلام على الثورة وحق «الشهداء» الذي ينبغي استعادته، لكن الأمر غير ما تعتقد. تكون في مكان يطل على ميدان التحرير، وبالتحديد في نهاية شارع «طلعت حرب»، في المساء السابق للمحاكمة المنتظرة، يخرج شباب من الشوارع المتفرعة لـ«طلعت حرب» منتفضون على حركة اقتحام الجيش لميدان التحرير، رغم إعلان الشباب تعليق اعتصامهم. نراقب من فوق المكان المُطل على المشهد كله مع جمع من الساكنين في المكان نفسه. ويحدث ما يشبه التراشق، حجارة تُرمى من الجهة المقابلة لأفراد الجيش. مشهد لا يليق أبداً بجلالة ما جرى من ثورة في الميدان المقابل لهذا التراشق في الأيام التالية لثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني.
«دول بلطجية يا عم»، عبارة يقولها صاحب الفندق الذي نقيم فيه. نعتقده، في الوهلة الأولى قاصداً رجال الجيش الذين يهاجمون الشباب. وهم الشباب أنفسهم الذين يحملون لافتات تقول: «يانجيب حقهم، يانموت زيهم»، في إشارة إلى الجرم الذي ارتكبته قوات الجيش والشرطة عندما فضت اعتصام الشباب في ميدان التحرير ومزقت خلاله صور الشهداء.
لكن اعتقادنا لا يسير في محله عندما يظهر أن عبارة «دول بلطجية ياعم» تقصد شباب الثورة الذين يرفعون تلك اللافتات التي تطالب بحق رفاقهم.
يحدث لدينا وقتها ما يشبه جرساً يقول إن علينا تجهيز أنفسنا لما هو أقسى وأمرّ. مسألة أن يتحول شباب الثورة إلى مجاميع بلطجية وقاطعي طرق في الوعي الجمعي للناس المحيطين بنا. وهي الأوصاف نفسها التي سمعناها عنهم في هذه المساحة التي نقيم فيها وتأتي على وزن «دول وقفوا حال البلد... دول عالم صيّع مالهمش شُغلة ولا مشغلة. معدش فيه سايح بيجي بعد ثورتهم. ربنا يخرب بيتهم».
وبناءً على ذلك تدور ماكينة كلامهم. وكان هذا حيال تظاهرة لم تكن حاشدة لشباب لم تشغلهم متطلبات شهر الصيام عن المطالبة بحق رفاقهم الشهداء.
لكن الأمر نفسه يتكرر عندما يحين موعد بث جلسة محاكمة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك ونجليه علاء وجمال وإليهم كتيبة وزارة الداخلية وعلى رأسهم حبيب العدلي، وبالتحديد عندما يتأكد خبر حضور مبارك للجلسة التي ستُبَثّ على الهواء مباشرة. وعلى الرغم من تأكد خبر وصول حسني مبارك إلى مطار القاهرة عبر طائرة خاصة ونقله بعدها عبر طائرة هليكوبتر مجهزة بفريق طبي خاص، بيد أنّ هذا الفريق المتعاطف مع «الديكتاتور المخلوع» لا يبدو أنه مصدق لما يجري.
وقتها لا ينتبه الموجودون في الصالة التي نراقب فيها جلسة المحاكمة المبثوثة على الهواء للرطوبة الكثيفة التي تحيط بالجو. مع أنهم كانوا يشكون منها بعد انتهاء مشهد المطاردة بين رجال الجيش وشباب الثورة. كأن ما يحدث الآن أمامهم على الشاشة هو أمر يفوق الوصف، ولا قدرة لهم على تصديقه.
لكن رغم كل ما يحدث أمامهم على الشاشة، يبدو أنهم ما زالوا منتبهين لعدوهم الرئيسي الماثل في مخيلتهم. ويظهر هذا عندما يطلب نزيل عربي إدارة وجهة القناة إلى قناة «الجزيرة».
حينها، لك أن تسمع كلاماً «قبيحاً» في حق تلك القناة التي «أوصلت المنطقة العربية إلى ما وصلت إليه من دمار واضطرابات كبيرة»، بحسب ما قاله صاحب المكان الذي يصر على استمرار المشاهدة على القناة المصرية الأولى، المالك الحصري لحقوق البث. وتبدأ المشاهدة مع كائنات غير مصدقة حتى اللحظة أن حسني مبارك قد يظهر على الشاشة وفي القفص!
لكنه يظهر على الرغم من تلك الآمال العريضة التي تمنت عدم ظهوره أو «عوّلت على شهامة الشعب المصري الذي لن يسمح بظهور رئيسه السابق الذي حكمه طوال ثلاثين عاماً وقام بأول طلعة جوية في حرب ثلاثة وسبعين أن يظهر بهذا الشكل وفي قفص المحكمة»، بحسب واحد من عشاق الديكتاتور المخلوع.
ويظهر هو ونجلاه. يقول الخبر المنشور على شريط الأخبار في القناة المصرية الأولى أنه اللقاء الأول بينهم!
يفزع أحد الحاضرين كأنه التسع فجأة من قسوة الخبر الذي هبط عليه من حيث لا يحتسب، ليقول: «كيف لهم أن يمنعوا أباً عن أبنائه طوال هذه المدة! كأنه لا يعلم شيئاً عمّا أحدثه هذا الأب من أفعال طوال ما مضى من فترة حكمه وما لحقه به من أفعال مرتكبة من طريق نجله جمال! يبدو الصمت هنا لازماً أمام هستيريا «العبودية المختارة» هذه!
عبودية تسير على نحو تراكمي كلما ذهبت المحاكمة في طريقها.
ومن هنا وهناك تسمع كلاماً يقول بعدم دستورية المحاكمة نفسها، وإنه لا تجوز محاكمة رجل عجوز. وإنه على سرير الموت. وإنه لا ينتبه لسير المحاكمة بقدر انتباهه للحنين إلى نجليه. ومن هذا الكلام كثير. كأن هذا الرجل لم يفعل في مصر ما فعل!
ويستمر الصراخ نفسه والعويل على طول فترة المحاكمة إلى حد سماع كلام مشكك في حقيقة سقوط شهداء في «ثورة يناير».
يعلن القاضي رفع الجلسة، لكن الكلام ذاته يستمر باكياً على مبارك ونجليه. كأنها حالة من استمرارية «العبودية المختارة» نفسها... تحتاج القاهرة إلى ثورة أخرى.