الثورة لا تشبع. قفص باتساع ٣٠ متراً ينتظر الديكتاتور، والديكتاتور يشاكس، ويراوغ الجميع من زنزانته الطبية. يلتصق بسريره، ويصنع من حالته الصحية ومزاجه النفسي خبراً يحتل الصفحات الأولى. لا خبر نهائياً إلا التصاق مبارك بسريره الأخير. مصادر تقول إن «حالته الصحية مطمئنة وتسمح له بالحضور للمحاكمة»، ومصادر أخرى تقول العكس. مزاجه النفسي «عادي بالنسبة إلى عمره»، بحسب فريق طبي، و«تتدهور ويتجه إلى اكتئاب كلما اقترب موعد المحاكمة»، عند فريق آخر.
مبارك وقّع بنفسه قرار الاستدعاء للمحاكمة، ورغم ذلك، وهو البيروقراطي المحترف، لا يثق اثنان في أي مكان بأنه سيطير من شرم الشيخ إلى القاهرة ويقف في القفص. حتى وسيلة النقل لا قرار نهائياً في شأنها. الاحتمال الرائج هو نقله بطائرة حربية إلى مطار الماظة (الذي غادر منه قبل إعلان تخليه عن الرئاسة) ومنه بطائرة أخرى إلى مقر المحاكمة. لكن هناك من تحدث عن مروحية عادية تنطلق من مهبط طائرات خلف المستشفى، وقد يُستخدم الإسعاف الطائر.
وزير الداخلية اللواء منصور العيسوي تحدث عن عملية التأمين الضخمة التي يشارك فيها أكثر من 8000 جندي وضابط، يدعمهم 200 ضابط وجندي من القوات المسلحة. ونقل مبارك وحده يحتاج إلى ٢٠ تشكيلاً من تشكيلات الأمن المركزي، تضم ٥٠٠٠ ضابط ومجنّد و٢٠ مدرعة. حدث ضخم، وديكتاتور يفتقد الأمان، حتى بعدما أزيح عن مقعده المحبّب.
مبارك مدمن التصاق، مقعده وسريره، وألاعيب فريق الدفاع عنه لم تهتم بالـ١٠ آلاف ورقة التي يضمّها ملف القضية قدر اهتمامها بصناعة دراما ترتبط بالمرض، مرة للهرب من الوقوف في القفص، ومرات لتجهيز المناخ العاطفي الذي يطلب الرحمة للرجل العجوز: «ارحموا عزيز قوم…».
القفص في انتظار الديكتاتور، وهذا وحده يكفي لتصبح محاكمة مبارك محاكمة القرن، كما وصفها متفائلون يبحثون عن التاريخية. هناك من تصوروا أن الثورة مجرد عملية اصطياد للديكتاتور، ويرون أن المحاكمة هي المشهد الكبير في فيلم كان لا بد أن يكون قصيراً. لا يرتاح أغلب الجالسين خلف المجلس العسكري الحاكم إلى المحاكمة، لأنها تضرب عقيدتهم في تقديس الجنرالات، بما يعني أنه سيهتز العرش بوقوف مبارك في القفص، بينما سيظل مستقراً إذا طبّقت قيم احترام القائد العسكري، والأب الحاكم، وخصوصاً أن الجيش لا يرى أنه مجرم، ولكنه عجوز التهم السوس عصاه، وفقد مكانته ومكانه بسبب شهوانية عائلته.
هكذا تأتي المحاكمة في قلب مدّ وجزر الثورة، انتصار وهزيمة، جولات تتلاحق فيها الأحداث، وتطارد فيها فرق القبعات الحمراء أهالي الشهداء الذين يحاكم مبارك بسببهم. مبارك أصدر أوامر قتل المتظاهرين. هذه هي التهمة الأولى للديكتاتور في قضية انضم إليها وزير داخليته (حبيب العادلي ) و٦ من كبار مساعديه.
الديكتاتور فوق القانون، وأوامره مقدسة، يحيي ويميت. هكذا تخيّل مبارك وهو يهتف في وزير حراسته: افعل أي شيء... استخدم الرصاص الحي لتوقف كل هذا فوراً. وتروي الحكايات المتناثرة شتائم وجهها الديكتاتور إلى وزيره، وحكايات أخرى تؤكد أن جمال مبارك هو القائد الحقيقي للقصر في الثورة، وأن كل شيء حدث بإدارته، وهذا ما يفسّر ضمّ جمال وشقيقه الأكبر علاء إلى المحاكمة في قضايا فساد وتربّح واستغلال نفوذ، يشاركهم فيها صديق العائلة الهارب حسين سالم، رُبط بينها وبين قتل المتظاهرين على اعتبار أنها كانت بهدف حماية عرش الفساد والاستبداد.
وهنا ضمّت إليها قضية العادلي ومساعديه، بعدما رأت محكمة جنايات القاهرة أن لائحة الاتهامات المسندة إلى مبارك، بينها اتهامات تتعلق بقتل المتظاهرين، تضمّ وقائع القضية نفسها التي باشرتها على مدار ثلاث جلسات ماضية، الأمر الذي يستوجب النظر في القضيتين معاً أمام دائرة واحدة من دوائر محكمة جنايات القاهرة. وفي ضوء أن أدلة الثبوت في القضيتين واحدة، رأت المحكمة إحالة القضية برمتها على الدائرة التي ستباشر محاكمة مبارك في جلسة اليوم.
الديكتاتور في طريقه إلى القفص. قد يهرب، وقد يحضر، والبطولة محجوزة هنا بعيداً عن ميدان التحرير، بعدما أخلي بالقوة في غزوة بدأت الجمعة باحتلال السلفيين للميدان وإعلانهم أنهم «الثورة» التي تتحالف مع الجيش، ثم هاجمت القبعات الحمراء وفرق أمنية أخرى الميدان، في ما وُصف بأنه عملية «تطهير» جرت بالأساليب القديمة نفسها وبمشاركة ضباط شرطة وأمن مركزي.
الجماعة الإسلامية، على لسان متحدثها عاصم عبد الماجد، رفضت بثّ المحاكمة لكي لا تثير أقوال مبارك ونجليه وقيعة بين الجيش والشعب. كأن هناك محاولة لأن تكون الثورة عملية اصطياد مبارك، لا تكسير الدولة الأمنية، دولة تفكر وتحكم بقوة الأمن ولا تحترم كرامة مواطنيها وحرياتهم، وتصل إلى حدود قتلهم دفاعاً عن الوطن. ماذا سيضيف مشهد مبارك في القفص؟ هل سيرفع رصيد الجنرالات الذين ضحّوا وأسهموا في اصطياد جنرالهم؟ أم سيدفع الثورة إلى الأمام في موجة ثالثة؟ هل سيعود الثوار إلى الصورة أم تكمل المحاكمة مخطط دفعهم إلى هامش الصورة؟ من سيخرج منتصراً من المحاكمة ويقود إيقاع العبور: الثورة أم المجلس؟



مبارك مدمن التصاق، مقعده وسريره، وألاعيب فريق الدفاع لم تهتم بملف القضية قدر اهتمامها بصناعة دراما ترتبط بالمرض



جمال مبارك هو القائد الحقيقي للقصر في الثورة وكل شيء حدث بإدارته، وهو ما يفسّر ضمّه إلى المحاكمة




وزير الداخلية اللواء منصور العيسوي تحدث عن عملية التأمين الضخمة التي يشارك فيها أكثر من 8000 جندي وضابط




عشية المحاكمة

5 جرحى أمام مقر احتجاز مبارك



وقعت مساء أمس أمام مستشفى شرم الشيخ الدولي، مقر احتجاز الرئيس المصري السابق حسني مبارك، اشتباكات عنيفة بين مجموعة من بدو جنوب سيناء وأعداد من العمال المنتمين إلى محافظات جنوب مصر (الصعيد) استخدمت فيها الأعيرة النارية أدّت إلى سقوط خمسة جرحى.
وأفاد مدير أمن جنوب سيناء، اللواء محمد نجيب، بأن الاشتباكات التي وقعت لا علاقة لها بالرئيس السابق.
وأوضح نجيب أن مجموعة من بدو منطقة شرم الشيخ اشتبكت مع عمال من الصعيد ومن المحافظات الشمالية أيضاً بسبب خلافات العمل، ووقعت الاشتباكات بينهما في منطقة «مساكن العمال» خلف مستشفى شرم الشيخ.
الى ذلك, سجّلت مؤشرات البورصة المصرية تراجعاً كبيراً في نهاية تداولات أمس، لتخسر حوالى مليار و340 مليون دولار من رأس مالها السوقي (ما يقرب من 8 مليارات جنيه مصري).
(يو بي آي)



محاكمة تفزع الحكام

رأى القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، عصام العريان، أن محاكمة الرئيس المصري حسني مبارك «درس لمرشحي الرئاسة القادمين ليعرفوا مصير كل من يحاول التعدي على حرية الشعب والانفراد بالسلطة». من جهته، رأى المحلل السياسي مصطفى السيد أنها بمثابة رسالة تحذير لكل الحكام العرب الذين يستخدمون الأساليب نفسها التي استخدمها مبارك، بأن عليهم أن يحذروا الاحتجاجات الشعبية لأنهم سيواجهون المصير نفسه إذا نجحت. وتتابع دول الخليج العربية عن كثب ما يحدث في مصر. وقال مصدر عسكري لوكالة «رويترز» إن المملكة العربية السعودية ودولاً أخرى تضغط في هدوء على الجيش حتى ينقذ مبارك حليفها القديم، فمحاكمته ترسي سابقة غير مريحة للحكام الشموليين. لكنّ السفير السعودي في القاهرة أحمد عبد العزيز قطان نفى خلال حديث مع التلفزيون المصري أيّ تدخل من هذا النوع.
(رويترز)