منذ انطلاق حوار التوافق الوطني، ورغم حسن نيات كثيرين في المعارضة والموالاة، لتبديد الاحتقان وإحداث فجوة في جدار الأزمة، فإن أسسه من حيث الشكل والمضمون أوحت بأنّ الحلّ لن يأتي، وأكثر ما يمكن أن يقدّمه هو مرحلة جديدة من «الجمود السياسي». لم يكن وطنياً، كما أطلق عليه، لا من حيث المشاركين فيه ولا في المواضيع «المتوافق عليها». وإن كانت المحاور الاجتماعية والحقوقية والاقتصادية قد شهدت سجالاً صحياً واتفاقاً على كثير من الإصلاحات، فإن المحور السياسي كان الأكثر حماوةً، وأكّد الفرضية التي تقول إن الهدف من إطلاق الحوار كان تحسين صورة المملكة، التي تشوّهت نتيجة الحملة الأمنية القاسية ضدّ المعارضة على مدى أشهر، لكنه لن يعمل على تغيير الوضع القائم.
بيّنت النقاشات داخل قاعة المحور السياسي أنّ هناك غالبية من الحضور تحمل رؤى متشابهة، تعاضدت في ما بينها لإغراق قاعة النقاشات بأفكار متشابهة تخلص الى المحافظة على الوضع القائم. وبما أنّ السلطة هي التي نظّمت الحوار وأرسلت الدعوات، فإنّها أرادت من هذه التركيبة الوصول الى نتيجة كهذه.
خلال الجلسة الأخيرة في المحور السياسي، الذي يستمر الى أواخر الشهر الجاري، فيما انتهى المحور الاجتماعي كما عُلم من المشاركين، عرض مندوبو ما بقي من المعارضة، وتحديداً جمعيتا «وعد» و«التجمع القومي» و«المنبر التقدمي»، رؤى سياسية تتمحور حول ضرورة تأليف الحكومة من الغالبية البرلمانية على الأقل بعد تعثر خيار التوافق على حكومة منتخبة، كما أكد مشاركون في الحوار لـ«الأخبار». بدا هذا الطرح عالي السقف بالنسبة الى غالبية المشاركين، وجرى نسفه، حتى خيار نيل الحكومة الثقة من مجلس النواب المنتخب اختُلف عليه.
وبحسب ما أكّد مشاركون، عُرضت 3 رؤى سياسية لم يجر التوافق عليها، تتراوح بين الحفاظ على الوضع الحالي واختيار رئيس الوزراء من الكتلة الأكبر (أو أن يعمد الملك الى تعيين رئيس الحكومة بعد التشاور مع الكتل النيابية)، وأن يعين الملك رئيس الحكومة (اقترح البعض وضع شرط أن يكون رئيس الحكومة من الشخصيات العامة)، ليخلصوا بالنهاية الى «توافق مع استثناءات» على الخيار الأخير، بحيث أقرت إدارة الحوار أنّ الحضور توصلوا الى توافق على الحكومة مع اعتراض المعارضة الممثلة بـ 6 أشخاص من أصل 75 شخصاً.
رغم ذلك، الحوار مستمر، لكن من دون المعارضة الرسمية التي تمثل غالبية الشعب وهي «الوفاق»، التي خرجت بعدما سجلت اعتراضها على العملية برمتها شكلاً ومضموناً، ومع تحفظ وتردّد بقية حلفائها في المعارضة المشاركين في الحوار. وإن كانت «الوفاق» قد دخلت بداية الى الحوار، فكان القصد نزع الحجة من السلطة، كي لا تأتي يوماً وتقول «عرضنا عليهم الحوار ورفضوه»، هكذا دخلت لتؤكد أنّ «الحكم هو من يرفض حواراً جدّياً ويريد الحفاظ على الوضع القائم»، هذا ما يؤكّده النائب الوفاقي سيد هادي موسوي لـ«الأخبار». يقول إن «السلطة جاءت بمشروع وأفقدته كل أسس الحوار».
ينفي موسوي ما تردّد عن حصول حوار موازٍ من خلف الستار بين الجمعية والسلطة بوساطات سفارات الدول الأجنبية بغرض التوصل الى حل للأزمة. ويشير الى أنّ الحوار الحقيقي جرى في النصف الأول من شهر آذار مع ولي العهد «كان حواراً جدياً وتوصلنا مع سمو الأمير الى نتائج في جوهر القضايا، لكن نتائجه لم تكن مريحة للسلطة، فجاء الردّ العسكري».
ويؤكد عدم حصول أي تواصل مع السلطة، بل كل ما جرى «مساعٍ للسفارات الأجنبية في إطار تبادل وجهات النظر، وحوار على الهواء (في العلن) يصب في إطار ما بحثه ولي العهد خلال جولته على العواصم الغربية».
بموازاة موقف «الوفاق»، يأتي موقف شركائها في المعارضة، ما يعرف بالحركات الديموقراطية الثلاث (وعد، المنبر والتجمع القومي). العلاقة بين الجهتين لم تكن مثالية. انعكست الأزمة الأخيرة عليها سلباً، وامتعض الوفاقيون على هذه الجبهة اليسارية في مجالسهم الخاصة، وقالوا إنه مهادنة واستسلام للسلطة. أصدر هؤلاء بُعيد انسحاب «الوفاق» بياناً، يُلحظ في قراءة فحواه رفض مسبق لنتائج الحوار، لإدراكهم استحالة تحقيق المعارضة أياً من مطالبها المعروفة، رغم أنهم كانوا من أصحاب رؤى السقف الأدنى للمعارضة. وتشير الحركات في بيانها بعد عرض تحفظاتها وأسبابها إلى أنه «سيتعذر القبول بنتائج الحوار من دون التوافق عليها».
هذه الفرقة لا تنتقد الحوار بحدّية «الوفاق»، بل تجد فيه الكثير من الإيجابيات، تقول رئيسة وفد «وعد»، منيرة فخرو، لـ«الأخبار» إنه «سيكون ممتازاً إذا كان هناك مرحلة مقبلة، ولم يتوقف عند هذا الحد. إذا انتهى الآن يعني أنه فشل». وتطرقت الى ما توصل إليه المحور الاجتماعي الذي تناول المسيرات الدينية، بحيث طرحت آراء متشدّدة لتقييدها، لكن المعارضة قالت في الجلسة إن هذه المسيرات قائمة منذ مئات السنين، وتأديتها واجب ديني، لا داعي لوضع ضوابط لها الآن. وأعربت عن اعتقادها بأن تبقى الأمور على ما هي عليه.
وتضيف فخرو إن المشكلة الأساسية كانت في المسائل السياسية، البرلمان والحكومة والدوائر الانتخابية، هناك برزت مكامن ضعف الحوار، بشكله ومضمونه وأسلوبه وتركيبته. رفضت أن تُظهر تشاؤماً، ولا سيما مع بدء لجنة تقصي الحقائق الدولية المستقلة عملها، لكنها قالت إن «الأيام مقبلة على جمود سياسي، مع شهر رمضان».
في ظل هذا الأفق المأزوم، يناشد نائب الأمين العام للمنبر التقدمي، عبد النبي سلمان، في حديث إلى «الأخبار»، الملك للتدخل من أجل إعادة الأمور الى نصابها، فالأمور لا تبدو إيجابية، وهناك مؤشرات تصعيد قد تنجرف نحو العنف، وبعض القوى الاجتماعية تريد إبقاء الوضع القائم.
المشاركون من غير المعارضة يحاولون التغطية على انفراط الحوار وإظهار ثقتهم بأن خروج «الوفاق» لم يؤثر عليه أبداً، يؤكّد نائب رئيس مجلس الشورى جمال فخرو «أبداً، ليس هناك أزمة ولا تصعيد». يردّ النائب الوفاقي موسوي «إذا كان خروج الوفاق لا يؤثر على الحوار، فليس هناك ذريعة للسلطة بتوجيه ضربة أمنية، إن كانت تفكر بذلك، وما يثبت نجاح هذا الحوار أو فشله هو الوقائع على الأرض، وكيف ستكون الردود الشعبية عليه».

استنفار في الشارع... ومناوشات خليجيّة إيرانية





بين المهرجانات الشعبية الحاشدة ومسيرات القرى، يتحرك الشارع البحريني لنيل مطالبه، إلا أنها تترافق مع أجواء تحشيد وتهويل بحرب أهلية، وتوتر خليجي إيراني ليصب الزيت على النار

بموازاة العملية السياسية، تتجه الأمور في الميدان نحو منعطف خطير. الشارع لم يهدأ. واصلت الاحتجاجات تحركاتها بأساليب مختلفة. مسيرات يومية تشهدها القرى الشيعية، لا تخلو من المواجهة مع القوات الأمنية. إضافة الى مهرجانات شعبية حاشدة تدخل أسبوعها السادس، موزعة بين «الوفاق» وحركة ائتلاف شباب 14 فبراير. قبل أسبوع، تُوفيت امرأة أربعينية مُقعدة لتنشقها الغاز المسيل للدموع، الذي استخدمته الشرطة لتفريق مسيرة لشباب غاضبين. ومنذ أيام، يعمد مجهولون الى إضرام النيران على مداخل القرى. تسريبات وشائعات عن تدريب عناصر سلفية وتسليحها لحماية المناطق، كان برنامج «الحمية» أول ملامحها. تهويل بالاستعداد لحرب أهلية في جزيرة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها المقيمين 600 ألف نسمة، تقع عند حافة تجاذب إيرانية خليجية، ما يعني أن اشتعالها سيشعل المنطقة برمتها. مهما تكن الحقائق، فإن الثابت أنّ حالة غليان وامتعاض تعيشها يومياً زواريب القرى الشيعية في الأطراف، وإن سلمت منها حتى اللحظة المدن والعاصمة، تشرع الباب أمام مختلف احتمالات التصعيد. وبما أن التصعيد وانفلات الأمور ليسا في مصلحة أحد، لا صقور السلطة المتشددين ولا اللاعبين الإقليميين، فاللعبة الآن ستكون «عضّ الأصابع» ومن يصرخ أولاً، فإما أن تبقى الأمور على هذه الحال ريثما تتغير ظروف المعارضة لتحسين أوضاعها، أو تضطر السلطة الى تقديم إصلاحات تُخرج المعارضة من الشارع، وتُعيدها الى مقاعد المؤسسات الدستورية، لأنّ توتر الشارع ينعكس على الأوضاع الاقتصادية والسياسية للمملكة.
يرى النائب «الوفاقي» سيد هادي موسوي أن «المشاهد في الشارع تعبر عن حالة لااستقرار، لكنها ليست حالة نهائية للمواجهة، بل هي حالة متقطعة». يضيف «نحن نكرّس حالة أخرى هي المهرجانات الشعبية، من أجل إيصال رسالة جادة الى كل العالم، وسحب حجة منعنا من الوجود في الشارع من السلطة». ويعزو حالة انعدام الاستقرار الى غياب الثقة بين السلطة والشعب. ويقول «ليس غليان الشارع وحده من علامات عدم الاستقرار، وإنما أيضاً عمليات الفصل». ويتابع «لا يمكن فصل الحالة السياسية عن الاجتماعية والاقتصادية، فما يجري في الشارع ينعكس مباشرة على السياسة». ويؤكّد أن «بقاء الأوضاع على ما هي عليه ليس من مصلحة أحد، لا السلطة ولا المعارضة ولا الشارع». لكنه لا يستبعد توجيه ضربة أمنية ثانية مع بقاء الحكومة الحالية، ويؤكّد أن الأسلوب الأمني لن يحل المشكلة، بل «سيُبقي النار تحت الرماد». وعن تعاطي المعارضة مع المرحلة المقبلة، يشدّد على التمسك بالخيار السلمي «حركة سلمية بحتة»، لأنه المعيار الأكثر ضمانة لتحقيق المطالب.
مؤشر آخر يدل على التصعيد، هو تحديداً ما يجري بين الدول الخليجية وإيران، في أجواء تذكر بالضربة الأمنية الأولى للحركة الاحتجاجية في البحرين عقب دخول قوات «درع الجزيرة» في منتصف آذار. لقد وجّهت دول مجلس التعاون قبل يومين رسالة احتجاجية رسمية الى إيران، بسبب تصريحات أحمد جنتي، أمين مجلس صيانة الدستور الإيراني، خلال خطبة الجمعة، تجاه البحرين، رفضتها إيران بحجة أنها «لا تتلاءم والمعايير الدبلوماسية».
يمكن قراءة الموقف الخليجي في اتجاهين، الأول نحو الداخل البحريني ويدل على تعقيد الأزمة، والثاني إقليمي مرتبط بما يجري في المنطقة من هبّات شعبية، وتحديداً ما يحصل في سوريا، إذ ربما تعتقد الدول الخليجية أن فرصتها مؤاتية لمراشقة غريمتها اللدود إيران لإضعافها أكثر، فيما هي مشغولة بما يجري مع حليفتها الاستراتيجية.
وفي الإجمال، فإن التصريحات الإيرانية ليست موضع ترحيب بحريني، وإن كانت المعارضة الشيعية المتشدّدة تجد فيها متنفساً لإغاظة حكم آل خليفة فلا تعارضها، فإنّ المعارضة الشيعية الرسمية المتمثلة بـ«الوفاق»، لا تحبّذها كثيراً، وهي كانت قد أصدرت أكثر من بيان طلبت فيه من إيران عدم التدخل، مع أنها شملت برسالتها السعودية. لكن النائب الوفاقي يتساءل «إذا كان هناك بلد مستقر، وليس بين الشعب والحكم مشاكل، فهل تستطيع مطلق دولة أن تتدخل فيه؟»، من دون أن يرفض مبدأ أن التصريحات الإيرانية تعطي حجة للسلطة للقسوة على المعارضة. ويضيف متسائلاً أيضاً «لماذا تتحجج السلطة بالتصريحات الإيرانية؟ وكيف يستطيع الشعب أن يقول لإيران لا تصرّحوا؟». ويخلص الى أن «مشكلة الشيعة في البحرين لا تحتاج الى إيران من أجل تأزيمها والتحريض عليها، فهي تمتد لعقود مضت».
موقف المعارضة اليسارية من التصريحات الإيرانية أكثر وضوحاً وحزماً، تقول منيرة فخرو «فلتصمت إيران». وتضيف «كلما تحركت أضرّت بالشيعة في البحرين، وعكّرت الأجواء، يا ليتها لا تنطق». وتتابع «لا نريدهم أن يصرحوا. قضيتنا حساسة، وعلاقتنا أقوى على الشاطئ الشرقي، ولنا ارتباطات قوية مع دول الخليج». وتشير الى أن «العلاقات الدينية بين شيعة البحرين وإيران لن تتغير أبداً، ستبقى الى الأبد، وسيواصل شيعة البحرين زياراتهم الى قم والنجف، هذه أمور دينية». وتتابع «لكن شيعة البحرين لا يعطونها أي مجال للتدخل السياسي أبداً، رغم أنها لن توفر الفرصة لو أعطيت المجال». وتؤكّد أن تحرّك المعارضة وطني بحت «ما يجري في الداخل حركة ديموقراطية وطنية، فلتكفّ الدول عنا ونحن فرقاء المعارضة نهتم ببعضنا البعض ونحصّل حقوقنا». أما عبد النبي سلمان فيرجو أن لا يكون أي خلاف إقليمي على حساب البحرين «نحن شعب صغير عانى الكثير ولا نحتمل».