يُعدّ البروفيسور ألبر يلماز ديدي الأستاذ الوحيد في تركيا الذي درس «الإخوان المسلمين» سياسياً. والنقاش الدائر حالياً عن احتمال اعتماد النموذج التركي في الدول العربية، يقع في صلب اختصاصه. عن هذا الموضوع، كانت لـ «الأخبار» مقابلة معه
■ ما الذي يجعل من التجربة التركيّة نموذجاً يُحتذى به بالنسبة إلى العالم العربي؟
ـــــــ إنّ صعود نجم حزب «العدالة والتنمية»، والتطوّرات السريعة على صعيد السياسات التركية والاقتصاد والمجتمع، جعلا العرب يقدّرون التغيُّر الإيجابي في تركيا، لكن من المهم التذكُّر أنّ هذا التحوُّل التركي الكبير لم يحصل في غضون ليلة وضحاها، بل يستمد جذوره من أعوام الثمانينات، عندما أرسى رئيس الوزراء الأسبق تورغوت أوزال أسس مسار ليبرالي اقتصادي وسياسي أظهر بذور التعددية في السياسة التركية.
لقد تمكّن «العدالة والتنمية» من الوصول إلى السلطة بفضل هذا الانفتاح الذي أرسته سياسات أوزال، التي مهّدت الطريق لظهور مجموعة من رجال الأعمال المتحدرين بمعظمهم من مدن محافظة اجتماعياً في وسط الأناضول، كقيصري وغازي عنتاب وقونيا، المسمّاة «نمور الأناضول»، وهي المدن التي سُمح لها بالتوسُّع كمراكز رأسمالية بفضل استراتيجيات أوزال. في النهاية، كانت هذه المراكز الرأسمالية الجديدة هي الحاضنة الاجتماعية والاقتصادية لحزب «العدالة والتنمية». وما حصل لاحقاً، أنّ رجال الأعمال هؤلاء أرسوا علاقة مميزة مع «العدالة والتنمية»، الذي قام بدوره بتعديل وتليين أيديولوجيا الإسلام التركي، بموازاة توسيع العلاقات الاقتصادية لتركيا مع باقي أطراف الشرق الأوسط.

■ تقول إنّ أحد أهم مكوّنات النموذج التركي هو الارتباط المميّز للإسلاميين الأتراك بالاقتصاد الليبرالي
ـــــــ لدى الإسلاميّين الأتراك مقاربة اقتصادية تقوم على مبادئ السوق المفتوح، حيث النجاح الاقتصادي والربح هما القوى المسيّرة الأساسية، لا الأيديولوجيا فحسب. من هنا، فإنّ المساحات الليبرالية التي فتحتها الإصلاحات الاقتصادية لتورغوت أوزال أتاحت المجال أمام صعود هذا النوع من اقتصاد السوق الخاص بالإسلاميين الأتراك. وتدريجياً، أصبح الإسلاميون الأتراك من روّاد اقتصاد السوق، وهو ما تسبّب بضغوط عليهم لإيجاد أسواق جديدة لبضائعهم. وفي رحلة البحث هذه، وجد الإسلاميون الأتراك أن الأسواق الأوروبية كانت تحتكرها شركات كبرى يملكها في معظمها رجال أعمال أتراك علمانيون، كما أنّ رجال الأعمال الإسلاميين وجدوا أنه من الصعب عليهم أن ينافسوا الأسواق الأوروبية، وهو ما أدّى على نحو كبير إلى إدارة «نمور الأناضول» وجوههم إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط آسيا، حيث الغالبية السكانية تتألف من مسلمين. هذه استراتيجيا اقتصادية طويلة الأمد للقاعدة الشعبية والانتخابية لحزب العدالة والتنمية يشجّعها الحزب الحاكم، لأنّ النجاح الاقتصادي التركي، والصعود الجديد للنخبة الاقتصادية زادا من قوّة تركيا في المنطقة، وهما يمثّلان عنصراً آخر من النموذج التركي.

■ هل تحاول القول إنه إن أراد العالم العربي أن يخوض تحولاً على الطريقة التركية، فعليه البدء على الصعيد الاقتصادي؟
ـــــــ النموذج الاقتصادي التركي يمكن أن يكون مثالاً بالنسبة إلى الدول العربية ذات الاقتصادات المسيطَر عليها بشدّة من جانب الدول، بما أنّه سيكون على الحكومات العربية أن تنتقل من نموذج اقتصاد ـــــ الدولة إلى اقتصاد السوق، وذلك بموازاة انتقالها من الأنظمة التسلطية البيروقراطية، إلى أنظمة أكثر ديموقراطية وليبرالية. وهذا التحول الاقتصادي ستنتج منه ولادة طبقة جديدة من رجال الأعمال، من بينهم تجّار إسلاميون مستقلّون عن تدخُّل الحكومات، مثلما حصل في تركيا، لأنّ النموذج التركي مطبوع خصوصاً بالنجاح الاقتصادي على نحو مستقل عن إرادة الحكومات. إنّ هذا النوع من التحول الاقتصادي يبدو ضرورياً إن كان العالم العربي ينوي فعلاً اعتماد النموذج التركي.

■ هل يمكن القول إنّ النموذج التركي الإسلامي يختلف أيديولوجياً وتنظيمياً عن النسخة الإسلامية المسيطرة في العالم العربي؟
ـــــــ أعتقد أنّه إلى جانب ارتباط المحافظين الأتراك بالاقتصاد، فإن أهم مكوّنات النموذج التركي هو طبيعة الإسلام التركي المناقض للنسخة «الثورية» العربية من الإسلام. يختلف الهدف الرئيسي للإسلاميين الأتراك عن حلم إقامة دولة إسلامية مبنية على المبادئ الإسلامية والشريعة وعلى أسلمة المجتمعات. إنّ الإسلام التركي يعمل من الأسفل إلى الأعلى، حيث يسعى الأفراد المسلمون إلى أسلمة الدوائر الضيقة من محيطهم من خلال قاعدة شعبية من الناشطين، وعبر تعزيز التضامن بين هؤلاء الأفراد وتأليف شبكات اجتماعية وتشجيع التعليم الديني والمدني واستخدام وسائل الإعلام. هذا النوع من الإسلام التركي يتضمّن أيضاً التعامل مع قوانين الديموقراطية. فمنذ تأسيس نجم الدين أربكان حزب «النظام الوطني»، تعاطى الإسلام التركي مع ديموقراطية كانت تعمل على نحو مقبول نسبياً، واتخذ الإسلاميون عِبَراً قيّمة من أخطائهم، وتأقلموا مع قيم الديموقراطية والثقافة المدنية داخل المجتمع التركي إلى حد كبير. في المقابل، وباستثناء حالات محدودة في الأردن ومصر، حيث فاز بعض عناصر «الإخوان المسلمين» بمقاعد برلمانية، فإنّ التجربة الإسلامية في المنطقة مع الديموقراطية والمؤسسات الديموقراطية الوطنية ظلّت محدودة للغاية، إضافةً إلى ذلك، لم يلجأ الإسلام التركي إلى العنف، على عكس ما اعتمدته تنظيمات عديدة في العالم العربي قرّرت تحدّي حكوماتها من خلال العنف السياسي. على سبيل المثال، كان السؤال عمّا إذا كان يجدر بـ«الإخوان المسلمين» اللجوء إلى العنف في العالم العربي؟ سجال شديد الأهمية من حيث أنه كان حاسماً في الفرز بين القادة الرئيسيّين لـ«الإخوان» على امتداد عقدَي الستينات والسبعينات. من هنا، فإنّ مَن تأثّروا بسيّد قطب وبتبريره لضرورة اللجوء إلى العنف ضد الأنظمة العلمانية، انشقوا عن المسار الرئيسي لـ «الإخوان المسلمين» وأسسوا تنظيمات عنفية، بينما كان الإسلاميون الأتراك دوماً غير عنفيّين، وفضّلوا العمل بحدود المبادئ الديموقراطية، فضلاً عن ذلك، فإنّ تجربة الإسلاميين الأتراك في السياسة على المستويين المحلي والوطني فعلت فعلها عليهم، بما أنّ هؤلاء الإسلاميين وعوا ضرورة حلّ المشاكل الحياتية لمواطنيهم الذين انتخبوهم ليس انطلاقاً من أيديولوجيتهم الإسلامية الصرفة.

■ هل تعتقد أن نقص الديموقراطية في العالم العربي يمنع دول هذا الجزء من العالم من أن تتخذ تركيا نموذجاً لها؟
ـــــــ على عكس معظم الدول العربية، اختبرت تركيا مساراً تدريجياً من الديموقراطية التي سمحت لها ولساستها، ومن بينهم الإسلاميون، باتخاذ دروس قيّمة، جعلت منهم جزءاً من الذاكرة التركية السياسية الجماعية. ورغم ما عانته تركيا من انقلابات عسكرية (في الأعوام 1960 و1971، و1980 و1997)، فإنها سلكت خطوات مؤثرة تجاه الديموقراطية. على عكس ذلك، فإنّ معظم الدول العربية تفتقد هذا النوع من الذاكرة الجماعية السياسية، التي تكوّنت في تركيا من خلال وجود لاعبين سياسيين يعملون في أطر مؤسسات محلية ووطنية. لا يمكننا أن ننفي حقيقة كون مجموعات عديدة في المنطقة، كـ «الإخوان المسلمين»، يملكون رصيداً هائلاً من التنظيم والتمويل وتعبئة الجماهير وإنشاء شبكات اجتماعية قوية، لكنهم يعانون أزمة حادة في نقص الخبرة على صعيد السياسة الحزبية والديموقراطية والانتخابية، باستثناء بعض عناصر «الإخوان»، الذين تمكّنوا من دخول البرلمان المصري كمستقلّين أو تحت أسماء أحزاب غير «الإخوان». من هنا، فإنّ نقص الخبرة السياسية والديموقراطية والانتخابية لدى «الإخوان المسلمين» العرب هو حاجز كبير يحول دون سيرهم على طريق اعتماد النموذج التركي، ويمنعهم من اتخاذ منحى معتدل مثلما حصل مع الإسلاميين الأتراك على امتداد السنوات.

■ كيف ينظر «الإخوان المسلمون» والإسلاميون الأتراك إزاء بعضهم البعض؟
ـــــــ كانت نظرة الإخوان المسلمين المصريين تجاه إسلاميي تركيا، في السنوات الأولى لحكمهم، تنحو نحو السلبية على قاعدة أنّ هؤلاء «ليسوا مسلمين على نحو كافٍ». أضف إلى ذلك أنّه خلال تلك السنوات، في بداية الألفية الثالثة، كان نجم الدين أربكان وجهاً سياسياً معروفاً للغاية بالنسبة إلى «الإخوان»، على عكس رجب طيب أردوغان وعبد الله غول، وبإضافة غياب المعرفة العميقة لـ «الإخوان» بالجيل الشاب من الإسلاميين الأتراك، ثم الخلافات التي كانت سائدة بين أربكان وتلامذته السابقين من مؤسِّسي «العدالة والتنمية»، فإنّ النظرة السلبية السابقة إلى «الإخوان» تجاه «العدالة والتنمية» التركي تصبح مفهومة ومبرَّرة. من جهة أخرى، لا تعرف تركيا «الإخوان المسلمين» جيداً، وذلك لـ 3 أسباب رئيسية: أولاً بسبب النسخة التركية من العلمانية التي دفعت بتركيا إلى تجاهُل العالم الإسلامي، وثانياً بسبب الحرب الباردة التي أثرت كثيراً في علاقات تركيا مع العالم الإسلامي، وثالثاً نظراً إلى تأخر تسلم الإسلاميين الحكم في أنقرة إلى 2002.

■ هل ترى أنّ هناك رابطاً عميقاً يجمع بين «العدالة والتنمية» و«الإخوان» العرب؟
ـــــــ القادة الحاليّون لـ «العدالة والتنمية» هم بالتحديد هؤلاء الشبان الإسلاميون الذين قرأوا هذا الموروث الإسلامي العربي في السبعينات (سيد قطب والمودودي)، بالتالي كان هناك رابط فكري بين إسلاميي تركيا والعالم العربي (الإخوان خصوصاً). رغم ذلك، ظلت الارتباطات التنظيمية بين الطرفين في مستواها الأدنى، واقتصرت لقاءاتهم على مناسبات فكرية قليلة رغم محافظة بعض الإسلاميين الأتراك والإخوان العرب على علاقات صداقة شخصية. وبالتالي، فإنّ العلاقة بين «العدالة والتنمية» و«الإخوان» العرب جديدة، وأرى عدم وجود توازن في تلك العلاقة بين الطرفين؛ ففيما يتملّك الإخوان المسلمون العرب شعوراً بالطموح إزاء حزب «العدالة والتنمية» والنموذج التركي، فإنّ نخب «العدالة والتنمية» تكتفي بتوقُّع أن يأخذ الإسلاميون العرب حزبهم وتجربتهم كنموذج يحتذى به من حيث الدور.
أعتقد أنّ هذا السلوك من جانب الإسلاميين الأتراك من شأنه أن ينفّر آمال الإسلاميين العرب وطموحاتهم، وخصوصاً الإخوان المسلمين منهم.



يدرّس ألبر يلماز ديدي حالياً في جامعة زيرفي التركية في مدينة غازي عنتاب. أنجز شهادة الدكتوراه في الولايات المتحدة، وعمل أستاذاً محاضراً في جامعة ميتشيغن خمس سنوات. العنوان الكامل لأطروحته هو «الحركات الإسلامية، سيطرة الدولة على الأديان والهوية الاجتماعية: تركيا ومصر»