انطلاقاً من تصنيفه «أهمّ تغيير يحصل في المنطقة منذ انتهاء الحقبة الكولونيالية في منتصف القرن العشرين»، اهتمّ بحث الوحدة التابعة لـ«إيكونومسيت» بالشقين السياسي والاقتصادي لكل دولة تشهد تحركات وللمنطقة ككل. النقطة المشتركة في كل أجزاء التقرير تتحدث عن مخاض صعب تمرّ به الدول المعنية بغض النظر عن النتائج التي ستولدها موجة التغيير تلك. ولتلك النتائج، رسم التقرير سيناريوهات ووضع لكل منها نسبة أرجحية مع التركيز على مصر بوصفها البوصلة التي ستوجه المنطقة سياسياً.

بداية، اعتمد البحث على معيار الديموقراطية ليصنّف الدول في «جدول الديموقراطية لعام 2010»: لا ديموقراطيات في المنطقة بل في أحسن الأحوال «أنظمة هجينة» في لبنان والأراضي الفلسطينية والعراق، والباقي مجموعة ديكتاتوريات تبدأ بالكويت (الأقلّ ديكتاتورية) وتنتهي بالمملكة العربية السعودية (الأكثر ديكتاتورية). لكن سقوط «أحد أكبر الأنظمة القمعية» في مصر خلال أسابيع، سمح للقيمين على البحث بطرح سؤال: «هل ستشهد الدول العربية موجة دمقرطة كما حصل في أوروبا الشرقية عام 1989؟». سرعان ما يأتي الجواب أقلّ تفاؤلاً، إذ إن أفضل الاحتمالات التي خلص اليها التقرير هي تحول الانظمة المتحركة الى هجينة. ولـ«النظام الهجين» ميزات منها: انتخابات غير حرّة وغير عادلة، ضغوط تمارسها الحكومة على المعارضة، أحزاباً وأفراداً، انتشار الفساد، ضعف تطبيق القانون، هشاشة المجتمع المدني، عدم نزاهة القضاء... لذا يصف التقرير المشهد السياسي للربيع العربي وتداعياته بـ«خطوتين للأمام خطوة للوراء». أما السيناريوهات الثلاثة فهي:
السيناريو الأول بعنوان «حصاد ديموقراطي هزيل» ويرجح الباحثون إمكانية تحققه بنسبة 60%.
ركنا هذا السيناريو هما تونس ومصر. يقول التقرير إن ما يحصل في هاتين الدولتين سيحدد حجم التغيير الذي يمكن أن تحققه التحركات الشعبية. لكن في باقي الدول التغيرات ستكون «تجميلية» فقط وقد يرقى بعضها الى أنظمة هجينة بأقصى الحدود. وعلى الرغم من اعتماد كل من تونس ومصر طريقتين مختلفتين لتنفيذ الاصلاحات الدستورية، هما تتمتعان ببعض نقاط القوة مثل: التخلص السريع من رؤوس النظام السابق، نزاهة بعض مؤسسات الدولة مثل الجيش والقضاء والبنك المركزي والخدمات الاجتماعية والإعلام. لكن القاسم المشترك أيضاً بين تونس ومصر، هو حدوث صدامات عنيفة ذات طابع إسلامي متطرف بُعيد سقوط الانظمة الحاكمة. وهنا يلقي البحث الضوء على ما يسميه «التأثير الإسلامي» على المشهد السياسي في مصر وتونس.
أولاً، في مصر، يلحظ التقرير ظهور ميول سلفية لبعض الحركات الاسلامية الناشطة. ويوضح الباحثون أنه إذا عارضت قيادة حركة الاخوان المسلمين الدخول في الحياة السياسية واكتفت بالدور الاجتماعي، فسيجد الإخوان أنفسهم في منافسة مع تيار سلفي. وهنا يطرح السؤال: هل ستكون أجندة الاخوان هي تلك المعلنة والتي تعطي هامشاً من التنازلات بغية الحفاظ على التناغم الاجتماعي، أم يكون هذا الكلام مجرد واجهة تخفي الأهداف الحقيقية بتحويل مصر الى دولة اسلامية تحكم وفق الشريعة؟ السلفيون، من جانبهم، يرفضون كلياً مبدأ الديموقراطية، ويشير التقرير إلى أن حركة الإخوان المسلمين قد تخسر دعم وتأييد السلفيين لها إذا قدمت تنازلات كثيرة للعلمانيين والمسيحيين. يذكر التقرير أن حركة الاخوان المسلمين تريد أن يكون حزب «الحرية والعدالة» مستقلاً عنها بتمويل وتنظيم منفصلين، لكن الناخبين لن يفصلوا بين الحزب والاخوان، ما سيؤدي تلقائياً الى حصول الحركة على ثلث المقاعد في البرلمان الجديد.
النقطة «الهزيلة» الثانية في واقع مصر هي عدم وحدة صف الثوار. يشرح البحث أن الثوار المصريين لم يستطيعوا تأليف جمعية أو وحدة سياسية معينة تقود حملتهم الانتخابية وتمثلهم في الحياة السياسية، وهذا ناتج من عفوية الحركة الثورية التي قامت في البلد وافتقارها للأيديولوجيا. ما يعني، أن الاحزاب السياسية في مرحلة ما بعد الثورة ستشكّل من الصفر. كذلك يشير التقرير الى «الحزب الوطني الديموقراطي» المنحلّ والذي قد يتمكن بعض أعضائه السابقين من الدخول الى الحياة السياسية مجدداً باعتماد اسلوب الزبائنية ثانية في المناطق الفقيرة المعدمة.
مصر لم تحدد بعد شكل العلاقة بين الرئيس والبرلمان والحكومة، يلفت التقرير إلى أن هناك نوعاً من الاتفاق الضمني على تفعيل عمل سلطة البرلمان بطريقة تبعد شبح العودة الى أيام جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، حيث كان مجلس النواب صورياً والسلطة بيد الرئيس الحاكم فقط. شكل هذه العلاقة الجديدة وتوزيع السلطات سيحددهما اول مجلس يحل بعد الثورة.
بالمحصّلة، حكم مدني، وحكومة وبرلمان منتخب من الشعب في مصر، اما المشهد السياسي فسيكون عبارة عن مجموعة مشاحنات بين مختلف القوى من دون أن تتمكن جهة واحدة او حزب واحد من الاستفراد بالسلطة.
ثانياً، في تونس. كما في مصر، أنتجت الثورة عدداً من الاحزاب والمجموعات السياسية التي لم تنضو بعد في جسم واحد يمكنه أن يؤلف حكومة العهد الجديد. كما في مصر أيضاً، يبقى دور القوى الاسلامية، وعلى رأسها «حزب النهضة»، في التركيبة السياسية الجديدة غير واضح بعد. يبقى في تونس، خلل بقاء بعض رموز النظام السابق في السلطة وفي بعض مؤسسات الدولة الاساسية. وهذا ما ينتج لغاية الآن صدامات وثغراً أمنية ويشكل تهديداً على مسار الديموقراطية المنشودة في البلد. ولعلّ أكثر المكونات غموضاً هو الجيش التونسي. هو حائز على ثقة الشعب وتقديره (بعكس جهاز الشرطة) خصوصاً بعد أدائه أثناء التحركات الاحتجاجية التي خلعت الرئيس زين العابدين بن علي. من هنا يرى التقرير أنه إذا فشلت الحكومة الانتقالية بإجراء الانتخابات في 24 تموز المقبل وترافق ذلك مع موجة احتجاجات جديدة، فهناك فرصة بأن يتسلم الجيش السلطة بحجة «إنقاذ الثورة».
إذاً، مصير المنطقة السياسي معلّق بتطور الاحداث في تونس ومصر وما سينتج منها من تغيرات في موازين القوى وبروز لاعبين جدد على الساحة الاقليمية. الصورة المشرقة نسبياً التي قدمها تقرير الـ«إيكونوميست» لمصر وتونس في السيناريو الاول تخدشها فقرة كبيرة تحت عنوان: الحروب الأهلية. والبلدان المعرضة لتلك الحروب هي: اليمن، ليبيا، سوريا.
في اليمن يرى التقرير، أن الرئيس اليمني قد يختار إدخال البلد في حرب أهلية على التنحي. وفي حرب اليمن الاهلية تدخل عدة جهات خارجية، على رأسها السعودية وتنظيم «القاعدة». في ليبيا، الصراعات مستمرة ما دام النظام الحالي، وعلى رأسه معمر القذافي، قائماً. لذا يطرح البحث احتمالات عديدة لإنهائه ومنها: قتل القذافي بغارة أطلسية، انقلاب في موازين القوى داخل الجيش الليبي، انهيار النظام نتيجة نقص التمويل والإمدادات...
أما في سوريا، فاحتمالات صمود نظام بشار الأسد كبيرة. لكن التقرير يشير الى أن نظام الأسد لن يستطع تنفيذ وعود الاصلاحات التي طرحها للخروج من الأزمة (انتخابات حرة ودستور معدل...). لذا، قد تكون هناك فرصة منطقية للانقلاب على الأسد. وهذا الانقلاب لن يكون من خلال الاحتجاجات الشعبية بل من خلال تمرّد بعض فروع الجيش السوري وانقلابها على الحكم. وهنا ستكون النتيجة مأسوية ودموية إذ ستغرق البلاد في حروب أهلية وصراعات مع بعض رموز نظام الأسد التي ستقاوم الانقلابيين. حرب سوريا الأهلية لن تدور فقط على الأراضي السورية، يوضح التقرير، بل ستتعداها لتشمل إيران وحزب الله وتركيا وإسرائيل والاردن والعراق.
اذاً، السيناريو الذي تبلغ نسبة أرجحيته 60% لا يتضمن مشاهد مشرقة بقدر عنوانه، بل مصائر ضبابية (في تونس ومصر) وكوارث وحروباً في باقي البلدان. أما السيناريوهان الثاني والثالث، فاللافت أنهما متناقضان الى الحدود القصوى، لكن نسبة احتمال حدوثهما متساوية: 20% لعودة الديكتاوريات و20% لتقدم الديموقراطيات.
سيناريو عودة الديكتاتوريات أو تقويتها يحلّ إذا تسلّم الجيش المصري قيادة الحياة السياسية في مصر من جديد: وهذا سيحصل اذا أدت الانقسامات في المجتمع المصري الى صدامات عنيفة، أو اذا استطاع طرف واحد الاستحواذ على السلطة. حينها ستتذرع كافة الانظمة العربية بما جرى في مصر لتمديد بقائها. أما السيناريو الثالث الذي يبشّر بتحقيق الديموقراطية خرقاً للمشهد السياسي العربي، فهو يعتمد أيضاً على نجاح التركيبة السياسية الجديدة في مصر وتحقيقها لأحلام الثورة. وهذا النجاح مرتبط بصيغة تعايش بين الاخوان المسلمين والاحزاب السياسية التي تريد الحد من سلطة الدين على الدولة. «عندها فقط سيبدأ العدّ العكسي للتغير المرتقب في دول الخليج»، ينهي التقرير دراسته.



«القاعدة» والربيع العربي

يرى التقرير أن الثورات العربية السلمية وما حققته ستؤدي الى تراجع نفوذ تنظيم «القاعدة»، بزعامة أيمن الظواهري (الصورة). إذ إن التحركات الضخمة التي قادها الشباب لم يكن لـ«القاعدة» فيها أي دور أو مساهمة أو مكان. فمحرّكو الثورات الأساسيون لم يكونوا في أفغانستان او باكستان، بل حققوا انجازاتهم عبر مواقع الكترونية («فايسبوك» و«تويتر») مركزها الولايات المتحدة الأميركية. وعندما هُدّد المواطنون العرب في بنغازي، كانت أوروبا والولايات المتحدة هما من هبّتا لنجدتهم. لذا يشير التقرير إلى أن الرسالة التي حملها الثوار العرب تختلف كثيراً عن الرسالة العنفية لمجاهدي «القاعدة». الا أن البحث يحذّر من دور «القاعدة» المتصاعد في اليمن، وينبّه الى أن عودة الديكتاتوريات الى المنطقة ستؤدي الى اعادة إحياء «القاعدة».