رزق الله على أيام المخيم، رزق الله على «النقيفة» و«دولاب الحديد» و«المشاية البلاستيك»، رزق الله على «أبو علي الحلاق» و«بوظة أبو متسيك»! يا الله ما أجمل قصص ستّي إم ناصر، على الرغم من أنها كانت ترعبني ولا تجعلني أنام كل الليل. لكن، لا شيء يرعبني من قصص «أبو رجل مسلوخة» و«أبو الدانين» أكثر من الإبرة الفتاكة التي كانت تُعطينا إياها الخالة شمّة! الإبرة التي كنتُ مجبرة على أخذها كل مساء حتى أصبت بعقدة نفسية جعلتني أخاف من الإبر حتى الآن!رزق الله عليكي يا خالتو شمّة، كانت ترسلني كل يوم إلى بيت ستّي إم ناصر وأنا أبكي من الآلام في أسفل ظهري بعد أن تجبرني وبالقوة على أخذ إبرة للحساسية! كم هي مُضحكة تلك الذكريات، كُنا جميعنا نأخذ الإبر عندها لأنها كانت الممرضة الوحيدة في مخيم القاسمية، كُنّا بعد اللعب نذهب إلى منزلها كي نأخذ الإبرة قبل النوم، فنعود إلى منازلنا ونحن نمشي مثل البطة!
الطابور الخامس، هو ما كانت تسمينا به أنا وإخوتي، فقد كُنّا ننتظر الأولاد الآخرين الذين كانوا يقفون في طوابير أربعة ليأخذوا الإبر.
لم تكن الخالة شمّة تتعب أو تمل، لكنها كانت عصبية جداً ولديها الاستعداد الكامل للتوبيخ وخصوصاً إذا بكى أحدنا قبل «شكة» الإبرة. «كُلها نخزة! هه، شُفتي؟ ما بتوجّع!»، هكذا كانت تقول، لكن الوجع كان يلي الإبرة من حرقة في مكانها وتعضيل! كثيراً ما كنتُ أحاول التحايل عليها وعدم الذهاب، لكن على مين يا شاطر، كانت تعُدنا وتسأل عن الغياب! حتى إنني كنتُ أكذب عليها وأخبرها أنها نسيت وأعطتني الإبرة البارحة، لكن جزاءً عن الغياب والكذب كانت تعطيني إبرتين في الجنبين عن اليوم والبارحة وترسلني إلى البيت غير قادرة على المشي أبداً!
الطابور الخامس وقف أمام الخالة شمّة خالعاً سرواله وكرامته على مدى شهرين متتاليين، حتى أصبحت أخيراً تذهب إلى بيت خالي المجاور وتعطينا الإبر كلّ منا على انفراد. «بعد شو يا خالتو شمّة»، ما زلت أتمنّى دائماً أن أقول لها، لكنني كنتُ أخافها! أحبها كثيراً لكن إبرها كانت ترعبني، كانت تهددني إذا أخطأت بها، فأجلس «لا من تمّي ولا من كمّي» مثل الحمل الوديع!
الخالة شمّة تزوجت وسافرت إلى ألمانيا، مثل معظم فتيات المخيم، لم أرها منذ فترة بعيدة. لا أذكرها كثيراً مثلما أذكر إبرها، أذكر ملامحها بصعوبة. كانت سمراء، نحيلة، شعرها أسود قصير، لكن لا أذكر تفاصيل وجهها. أذكر تفاصيل يديها، ربما لأنها الشيء الذي كنت أنظر إليه قبل «شكة» الإبرة، كانت تقول لي: «ما تطّلعي!»، لكن كنت دائماً أمعن في يدٍ خشنة متشققة تعبت من إعطاء الإبر.