قبل ستة أشهر من الآن، وقف الجنوبيون في صفوف طويلة أمام مراكز الاقتراع مصدّقين على حقهم في الخروج من رحم السودان الموحد، الذي سيفقد ابتداءً من اليوم ثلث مساحته، وقرابة الـ 20 في المئة من سكانه. أما اليوم، فسيكتفي رئيس حكومة جنوب السودان، سيلفا كير ميارديت، بإنزال علم السودان، ويرفع عالياً علم جمهورية جنوب السودان إيذاناً بالولادة الرسمية للدولة الجديدة، التي ستمدّ على مساحة 589 ألفاً و745 كيلومتراً مربعاً، وسيحدها إلى جانب السودان شمالاً، إثيوبيا من الشرق، وكينيا وأوغندا من الجنوب، فيما ستحدّها من الغرب جمهورية الكونغو الديموقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى. هذه اللحظة يدرك ميارديت، ومن خلفه قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان، وباقي الجنوبيين أنهم يدينون بها لمروحة واسعة من الأشخاص، في مقدمهم جون غرنغ الذي اختير أن يكون الاحتفال على ضريحه عربون وفاء لزعيم الحركة ومنظّرها السياسي. فحلم الانفصال الذي رافق الجنوبيين منذ ما قبل تحقيق السودان لاستقلاله في عام 1956، وحدها الحركة الشعبية نجحت في تحويله إلى حقيقة بعدما انتزعت حق تقرير المصير من خلال اتفاقية السلام الشامل التي وقّعتها في عام 2005، لتنهي بذلك عقوداً من الحرب الأهلية.
كذلك يدرك الجنوبيون أن هذه اللحظة ما كانت لتبصر النور لولا تضحيات مقاتلين لم يترددوا في دفع دمائهم دفاعاً عن هويتهم وقضيتهم، التي حصدت أكثر من مليوني قتيل، ولولا الدعم الغربي وبالأخص الولايات المتحدة التي رعت الحركة طوال السنوات الماضية.
أما اللاجئون الجنوبيون فلهم بصمتهم الخاصة ونصيبهم من الاحتفال بعدما تحملوا مشقات التهجير في الشمال ودول الجوار الأفريقية، قبل أن يختاروا مع موعد الانفصال العودة إلى الجنوب.
فالحركة الشعبية لتحرير السودان، المسيطرة على حكومة الجنوب، فشلت في استغلال السنوات الست الفاصلة ما بين توقيع اتفاقية السلام الشامل، وموعد إعلان الانفصال اليوم، لإرساء مقومات الحياة للجنوبيين. والدولة الجديدة، التي تعتمد ميزانيتها على إيرادات النفط بنسبة تفوق الـ 90 في المئة، لا يتجاوز طول الطرق المرصوفة فيها 100 كيلومتر، ويعتمد سكانها على المساعدات الدولية لتوفير الغذاء، على أمل أن تنجح الدولة في استغلال الموارد المتعددة المتوافرة في الجنوب، بما في ذلك الثروات المعدنية، من بينها اليورانيوم، والطاقات الزراعية الهائلة. كذلك، تسير الحركة على ما يبدو على خطى نظيرتها في الشمال من خلال التفرد بإدارة شؤون الحكم، الأمر الذي تجلى خلال الإعداد لترتيبات الدولة الوليدة، بدءاً من اختيار اسمها «جمهورية جنوب السودان»، مروراً بشعارها «النسر»، وصولاً إلى العلم الذي اختير ليكون علم الجيش الشعبي لتحرير السودان، المؤلف من خمسة ألوان: الأسود والأحمر والأخضر، ومثلث أزرق، تتوسطه نجمة صفراء اللون.
أما الدستور الانتقالي، الذي نجح المشرّعون بعد مخاض عسير في إخراجه إلى النور، على أن يوقع عليه ميارديت اليوم ليدخل حيز التنفيذ، فإن العديد من مواضيعه لا تزال محل اعتراض من المعارضة الجنوبية وخصوصاً عدم وجود حد أقصى للولايات الرئاسية التي سيحق لميارديت توليها، بالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة التي منحت له، ما جعل البعض يعبر عن خشيته من أن يكون الجنوب بصدد إنشاء دولة الحزب الواحد. هذه الخشية تعززت بعدما وجد الجنوبيون أنفسهم في مواجهة متمردين جدد خرجوا عن طاعة الحركة الشعبية والدولة الوليدة، وباتوا يهددون وحدتها في ظل التباينات العرقية والإثنية والقبلية المنتشرة على امتداد ولاياتها العشر.
كذلك، على مقربة من الحدود غير مكتملة الترسيم، تدور معارك بين قوات تنتمي للحركة الشعبية بفرعها الشمالي وقوات الجيش السوداني، مضيفةً سبباً آخر للتوتر على العلاقة بين السودان وجنوب السودان، بعدما فشل شريكا الحكم السابقان في التوصل إلى اتفاق على عدد من القضايا العالقة التي كان يفترض بهما إنجازها قبل موعد التاسع من تموز، ومن بينها تقاسم مياه النيل، وعائدات النفط، وتقاسم الديون واستكمال ترسيم الحدود المشتركة التي تقدر بـ 2800 كيلومتر مربع، وسبق للبعض أن حذر من أنها ستكون وقوداً لحرب «ضروس» بين الدوليتن.
على المقلب الآخر، من المتوقع أن يكون حكام الشمال قريباً على موعد مع حساب الانفصال، السياسي والاقتصادي. فالانفصال «جريمة» لن يسهل للكثيرين من أبناء الشمال وسياسييه غفرانها للحركة الإسلامية، وبالأخص حكومة الإنقاذ التي رفعت عند انقلابها في عام ١٩٨٩ شعار الحفاظ على وحدة الوطن قبل أن تفرط به، معتبرةً أن الجنوب عبء ثقيل سيسمح التخلص منه بفتح صفحة جديدة. وهي الصفحة التي توعّد الرئيس السوداني قبل أشهر أنه لا مكان فيها للتنوع الثقافي أو العرقي.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن موعد التاسع من تموز لن يكون سوى مقدمة لتصاعد للتأثيرات السلبية التي بدأ السودانيون يعانون منها منذ أشهر. ورغم أن مسؤولي حزب المؤتمر الوطني الحاكم أكدوا أن البلاد لن تعود إلى زمن العسر، إلا أن التقشف يمثُل منذ فترة جلياً أمام أعين السودانيين بعد الإجراءات التي أعلنتها الحكومة لمحاولة تعويض الخسارة التي ستلحق بالبلاد نتيجة خسارة عائدات النفط. وبعدما كان البلدان يتشاطران النفط بالتساوي باتا مجبرين على إيجاد صيغة جديدة تحفظ للجنوب تصدير نفطه، وتضمن للشمال الحصول على عائدات استخدام موانئه ومصافيه على الأقل في المدى المنظور. بدوره، بدأ الجنيه السوداني يترنّح فاقداً جزءاً من قيمته، فيما تواصل الحكومة سياسة إحكام قبضتها على النقد الأجنبي.
أما التعويل على موافقة الغرب على إلغاء ديون السودان وحتى خفضها، فتدرك حكومة الخرطوم جيداً أن دونه «شروطاً» سياسية تضعها واشنطن ومن خلفها بلدان الاتحاد الأوروربي، تبدأ بضمان علاقة حسن جوار مع الدولة الوليدة وحل القضايا العالقة لتنتهي بحل قضية أبناء دارفور، الذين سيشاهدون اليوم مراسم الانفصال، ممنّين النفس بالوصول إلى يوم مماثل، على غرار العديد من الأقليات في البلدان العربية والأفريقية، التي يخشى المراقبون أن يكون الانفصال عاملاً مشجعاً لها.



السودان أول المعترفين بالدولة الجديدة

قبل ساعات من إعلان الانفصال، اعلن السودان أمس اعترافه رسمياً بـ«بقيام جمهورية جنوب السودان دولة مستقلة ذات سيادة وفقاً للحدود القائمة في الاول من كانون الثاني 1956 والحدود القائمة عند توقيع اتفاق السلام الشامل في 2005»، ليكون بذلك أول دولة تعترف رسمياً بالدولة الجديدة.
في غضون ذلك، تبنّى مجلس الأمن الدولي بالإجماع قراراً ينشئ بموجبه بعثة للأمم المتحدة في جنوب السودان قوامها سبعة آلاف جندي و900 مدني وخبير للاسهام في إعمار البلاد والسهر على الأمن فيه.
وفي السياق نفسه، حثّ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، من الخرطوم أمس، السودان على السماح لقوات حفظ السلام بالبقاء في منطقة جنوب كردفان قبل يوم من انتهاء تفويضها، وذلك بعدما أعلنت الحكومة السودانية أنها ستطلب مغادرة هذه القوات تطبيقاً لاتفاقية السلام الشامل الموقعة في عام 2005.
بدورها، طالبت السفيرة الاميركية لدى الامم المتحدة، سوزان رايس، الخرطوم باعادة النظر في تهديدها بطرد قوات الامم المتحدة لحفظ السلام بعد التاسع من تموز، قائلةً «إنه توجد مسائل كثيرة خطيرة لم تحلّ بعد على طول الحدود المتوترة بين الجانبين».
كذلك أوضحت رايس التي سترأس الوفد الاميركي المشارك في احتفالات الانفصال «أنه يجري حالياً اتخاذ الاجراءات الفنية لاستثناء جنوب السودان من العقوبات الاميركية المفروضة على الخرطوم منذ 1993، وهو ما قد يفتح الباب امام مزيد من المساعدة الاقتصادية»، فيما اكدت أنها تتوقع مزيداً من الخطوات الملموسة من الخرطوم من أجل رفعها من القائمة الاميركية للدول الراعية للإرهاب.
في هذه الأثناء، توعّد زعيم حركة تحرير السودان الدارفورية، عبد الواحد محمد نور، إطاحة نظام الخرطوم الاسلامي واستبداله بدولة علمانية «مشابهة لجنوب السودان».
وأكد نور من منفاه في نيروبي، «إنها مهمتنا، تغيير هذا النظام الاسلامي الاصولي. الحرب لن تكون في دارفور بل في الخرطوم»، داعياً «كل المجموعات في شمال السودان» إلى الانضمام الى حركته والاسهام في تحقيق هذا الهدف.
إلى ذلك، نسبت صحيفة «اندبندنت» في عددها الصادر أمس إلى شهود عيان اتهامهم قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في السودان بارتكاب إخفاقات خطيرة في أداء واجبها في توفير الحماية مئات المدنيين الذين قُتلوا خلال أعمال العنف التي اندلعت في جنوب كادوقلي الشهر الماضي.
(أ ف ب، رويترز، يو بي آي)