صنعاء | في الفترة الواقعة ما بين عام 2007، بداية الحراك الجنوبي السلمي، وبين بداية انطلاق ثورة الشباب اليمنية، عاش أبناء المحافظات الجنوبية بين ظلمين. فمن جهة كان تعالي نظام الرئيس اليمين، علي عبد الله صالح على مطالبهم وعدم التفاته إليها مع تعمد قواته الإفراط في استخدام القوة لقمع حركتهم الاحتجاجية التي سُمّيت «الحراك الجنوبي السلمي»، ومن جهةٍ ثانية كان شعورهم العام يقول إنهم يقفون بمفردهم في مواجهة ظلم وفساد نظام صالح العائلي فيما وقف أبناء المحافظات الشمالية موقف المتفرج.
وقد ساهم هذا في إحداث شرخ نفسي بين الجهتين. وما ضاعف من عمق هذا الشرخ هو أن مطالب أبناء المحافظات الجنوبية كانت مختصرة في بداية الأمر في مطلب المساواة بينهم وبين أبناء المحافظات الشمالية وضمان التوزيع العادل للثروة خصوصاً أن معظم المخزون النفطي لليمن موجود في المحافظات الجنوبية، إضافة إلى تمكينهم من امتلاك سلطات تتيح لهم اتخاذ القرار بحسب اتفاقيات الوحدة الموقعة بين سلطتي اليمن الجنوبي واليمن الشمالي في نوفمبر من عام 1989. ومع تزايد تجاهل نظام صالح لتلك المطالب وتعاليه عليها كان من الطبيعي ارتفاع سقف المطالب الجنوبية لتصل حد إعلان ضرورة فك الارتباط والحق في تقرير المصير بحسب ما تقرّه الوثائق الصادرة عن مجلس الأمن بعد حرب صيف 1994. وليس أدل على هذا ما صدر عما يسمى «المجلس الأعلى للحراك السلمي لتحرير الجنوب» في الذكرى السابعة عشرة لقرار فك الارتباط بين جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية، بتأكيده أن إعلان فك الارتباط مع الجمهورية العربية اليمنية واستعادة دولة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية ضرورة حتمية لا مفر منها.
ومع ارتفاع سقف المطالب في جهة الحراك السلمي الجنوبي كان ارتفاع مستوى العنف الرسمي ضد أصحاب الحراك، ما أوقع نحو أربعمائة قتيل منذ بداية انطلاقة الاحتجاجات. كل هذا كان عاملاً كبيراً في تعميق الشرخ النفسي.

منعطف الثورة

لكن مع بداية اندلاع ثورة الشباب حدث تحول نوعي في العلاقة بين شباب المحافظات الجنوبية والشمالية تمثل في تعرضهم لنفس الأذى والعنف على أيدي قوات نظام صالح وسقوط قتلى من كل طرف، ما ساهم في منح هذه الثورة صفة الشعبية. وهو ما انعكس على نفسيات العامة الذين قفزوا على الشرخ القديم وشعروا بأن هدفهم الرئيسي يتمثل في إسقاط صالح ونظامه. وكان من اللافت نجاح شباب الساحات في عدن الجنوبية في عدم الخضوع لرغبة النظام الذي عمل جاهداً على جرّهم إلى مربع العنف عبر ما كان يفعله أولاً عن طريق الاستخدام المفرط للقوة لقمع الاحتجاجات وصولاً إلى استخدام الرصاص الحيّ، أو عن طريق تسهيل دخول عناصر من الحراك الجنوبي من خارج المدينة مناهضة للوحدة وتؤيد مطالب فك الارتباط وترفع علم اليمن الجنوبي، كما يحمل بعض أفرادها أسلحة نارية خفيفة، وهو ما يعطي بالمقابل عناصر الأمن المبرر لاستخدام السلاح.
وكان شباب عدن منتبهين إلى تلك الأساليب وتعاملوا معها بنحو نجح في فرز تلك العناصر الدخيلة على مسيراتهم ومهرجاناتهم الاحتجاجية. وكان دافع الشباب إلى رفضهم رفع الأعلام الجنوبية أو الشعارات المنادية بفك الارتباط، إدراكهم أن اندلاع الثورة ضد نظام علي صالح قد عملت على توحيد صوت الجنوب مع كافة الأصوات التي ارتفعت في مختلف المدن اليمنية تحت هدف واحد يتمثل بإسقاط النظام الذي قام بتوزيع ظلمه على الجميع شمالاً وجنوباً من دون تفريق، وهو التوجه الذي تماهت معه العديد من فصائل الحراك الجنوبي متفقةً على أن إسقاط هذا النظام عبر ثورة الشباب إنما يسير في اتجاه الحراك الجنوبي نفسه مع ضرورة عدم الانجرار وراء مجانية الخلط بين النظام السياسي العائلي الفاسد وبين مواطني المحافظات الشمالية، بحيث توجّه الجهود كاملة باتجاه تفكيك هذا النظام مع عدم المساس ببنية المجتمع اليمني، وهو ما يقول بصعوبة تحقيق مطلب فك الارتباط الذي خفت صوته بعد اندلاع ثورة الشباب.
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن تلك الأصوات المطالبة بفك الارتباط أو بحق تقرير المصير بدرجة أقل قد صمتت نهائياً، فلا تزال هناك أصداء تتردد هنا وهناك بين الحين والآخر، وهي الأصوات نفسها التي يجيد النظام استثمارها لصالحها، إضافةً إلى القوى التي يدفعها إلى الساحات، كي يقوم باستخدام العنف ضد المحتجين سلمياً.
لكن خلال الأسبوعين الأخيرين حدثت استدارة كبيرة إلى الوراء وتغير شكل ساحات الثورة الشبابية في مدينة عدن، ارتفعت النبرة العدنية المتكلمة بلسان جنوبي متحضر مندّد بوحدة تمت على عجل مع شمال قبلي متخلف. ارتفع علم اليمن الجنوبي فجأة في المسيرات الاحتجاجية وانسحبت أعلام الجمهورية اليمنية. يحدث هذا على الرغم من كون غالبية شباب الثورة المتواجدين في الساحات في مدينة عدن لم يعرفوا زمن الحزب الاشتراكي ولم يغرفوا من نعيمه حيث خرجوا إلى الحياة وقد انتهى زمن الحزب والحياة السهلة. وبالتالي فإن كل الشعارات التي يرفعونها اليوم إنما هي ناتجة من محاكاة لشعارات بعض فصائل الحراك الجنوبي المطالبة بفك الارتباط، وهو الشعار الذي جاء لاحقاً لشعار «إصلاح مسار الوحدة» الذي افتتح مسيرة الاحتجاجات الجنوبية ضد نظام صالح. نقطة التحول في نظرة الشباب المتواجدين في ساحات الحرية بمدينة عدن من ثورة الشباب اليمنية، تزامنت مع موعد تشييع جنازة الشاب العدني أحمد الدرويش، وهو من إيقونات ثورة الشباب في مدينة عدن بصفة خاصة والجنوب عامة، على الرغم من مقتله تحت وطأة التعذيب في مقر الأمن العام قبل سنة من الآن، أي قبل اندلاع ثورة الشباب.
وقبل يوم التشييع، طلب شباب الثورة في عدن من اللجنة التنظيمية العليا لثورة الشباب أن تكون تسمية الجمعة الموافقة لجنازة الدرويش «جمعة أحمد الدرويش»، لكن اللجنة العليا تلك، تعاملت مع الأمر بخفة غير مدركة للقيمة الرمزية التي يحملها شباب الثورة هناك للدرويش، وذهبت إلى تسمية تلك الجمعة باسم «جمعة تأكيد الشرعية الثورية». وهو ما أثار سخط الشباب هناك، وانعكس في رد فعل دفعهم إلى اعادة رفع الأعلام الجنوبية وترديد شعارات مؤيدة للجنوب.
توافق هذا مع شعور الشباب بأن ثورتهم لم تعد تكترث بما تم التوافق عليه في المراحل الأولى للثورة، وأن يكون حل القضية الجنوبية مسألة مثبتة في جدول أولويات الثورة بعد إتمام طريقها.
لكن الباحث المتخصص في القضية الجنوبية، قادري أحمد حيدر، أوضح لـ«الأخبار» أن هذا التحول الذي حصل في مسار الثورة لدى شباب عدن مرتبط بطول المدة التي استغرقتها الثورة على عكس مثيلاتها في مصر وتونس، ما أحدث نوعاً من التململ.
كذلك لفت قادري إلى أن عدم وضوح الموقف السياسي بخصوص القضية الجنوبية على مستوى الخطاب السياسي المعارض والمؤيد للثورة ساهم كثيراً في ضبابية الصورة أمام الشباب، ما دفعهم لهذا التصرف.
لكن في الوقت ذاته، لا يستبعد قادري أن يكون لما حدث في ساحات مدينة عدن علاقة بما يجري في الخارج من ترتيبات جارية على قدم وساق للإعداد للمرحلة المقبلة في ما يخص الجنوب، في إشارة إلى مؤتمري القاهرة وبروكسل اللذين عقدا أخيراً برئاسة قادة جنوبيين مقيمين في الخارج، من بينهم علي ناصر محمد وأبو بكر العطاس في مؤتمر القاهرة وعلي سالم البيض في مؤتمر بروكسل. وهما المؤتمران اللذان سارا على طريقين مختلفين، ففيما ينادي المؤتمر الأول بضرورة دعم فكرة دولة فيدرالية حلّاً للدولة القائمة حالياً، ذهب مؤتمر بروكسل إلى دعم فكرة تنظيم استفتاء يقام في الجنوب لتقرير مصيرهم مع الميل بوضوح باتجاه إعلان الاستقلال ورفع اسم دولة الجنوب.
أما في الداخل، فسجل تطور لافت على صعيد عمل الحراك الجنوبي وهيئته العليا التابعة للقيادي الاشتراكي حسن باعوم، المعتقل حالياً في مكان مجهول لدى السلطات، إذ قام نجله فادي باعوم، برفقة حسن العولقي، وهما قياديان في الحراك الجنوبي، بزيارة مفاجئة قبل ثلاثة أيام لمدينة صعدة التقيا فيها بقائد الحوثيين عبد الملك الحوثي. وجاءت هذه الزيارة بمثابة رد لزيارة مماثلة قام بها حوثيون بارزون للجنوب، وهو ما يشير إلى امكانية قيام تحالف جديد يعمل على قلب أوراق اللعبة كاملة ومن ضمنها ورقة القضية الجنوبية، وفي مقابلها قضية صعدة. وهو الأمر الذي لم يعجب بطبيعة الحال حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي أوعز للعضو البارز فيه الشيخ أمين العكيمي باحتجاز باعوم والعولقي أثناء عودتهما من زيارة الحوثي، وجرى التحقيق معهما حول ما حدث في ذلك اللقاء قبل أن الإفراج عنهما لاحقاً.
الغريب أن يحدث كل هذا في الوقت الذي لم تتضح فيه إمكانية عودة صالح من عدمها بالتوازي مع تمدد نجله أحمد والذهاب بعيداً في وضع قبضته على أمور البلاد التي صار فعلاً متحكماً في مفاصلها وفي أحوالها الاقتصادية، ما انعكس بوضوح على حركة أنصار الرئيس صالح في الشارع وعودة الروح إليهم، فيما تجمد موقف أحزاب اللقاء المشترك ولم يقدروا على خطوة إيجابية واحدة على الرغم من غياب صالح عن السلطة من أكثر من شهر. وعليه تبدو مسألة اقتسام الكعكة الجنوبية سابقة لأوانها، وأن على الجميع من معارضة الداخل والخارج أن ينتهوا أولاً مما عليهم فعله قبل أن يفكروا بالانتقال إلى مربّع آخر ليسوا قادرين بعد على وضع سلطتهم عليه.



مسيرة للحراك في لحج

شهدت مدينة الحوطة الجنوبية مسيرة للحراك الجنوبي المطالب بالانفصال لإحياء ذكرى السابع من تموز.
ورفع المتظاهرون أعلام دولة اليمن الديموقراطية سابقاً ورددوا هتافات تطالب بحل القضية الجنوبية والإفراج عن كافة المعتقلين وعلى رأسهم حسن باعوم المعتقل منذ 20 شباط الماضي.
كذلك شهدت عاصمة محافظة لحج مهرجاناً خطابياً شارك فيه عدد من نشطاء الحراك السلمي أكدوا سلمية احتجاجاتهم وأوضحوا أن مطالبهم مشروعة، كما طالبوا المجتمع الدولي بالوقوف إلى جانب أبناء الجنوب لاستعادة الدولة المستقلة كما كانت قبل عام 1990.
وأكد البيان الصادر عن مجلس الحراك السلمي بمديريتي الحوطة وتبن، الجنوبيين على ضرورة عقد مؤتمر وطني لكافة أبناء الجنوب، بمختلف مكوناتهم، وعدم استثناء أحد، للوقوف أمام تطورات الحراك السلمي.