التوسعة الجديدة التي يقوم بها السعوديون في الحرم المكي ظاهرها خدمة حجاج بيت الله، ولكنّها تحمل في بواطنها أموراً أخرى مختلفة: بعضها سياسي أو شخصي، والبعض الآخر تجاري واقتصادي. وبالنسبة إلى الدوافع الشخصية، يمكن إدراج بعض أسباب التوسعات الضخمة المتتالية، في ظرف ثلاثة عقود، ضمن ضروب المزايدات بين ملوك آل سعود أنفسهم؛ فكل «خادم حرمين» يعتلي العرش السعودي يحاول أن يصبغ على نفسه شرعية سياسية وصيتاً دينياً في العالم الإسلامي، وذلك عبر إطلاق حملة دعائية ضخمة تقوم أسسها على تسويق فكرة أنّ الملك الجديد هو صاحب أكبر توسعة للحرمين في التاريخ.
لكنّ البعد السياسي في توسعة الحرمين، هو الأهم. ذلك أنّ مسألة «الإنجاز العظيم» الذي سيذكره المسلمون جميعاً للعاهل السعودي، كانت فكرة راودت ذهن الملك فهد بن عبد العزيز، أول من تسمّى بلقب «خادم الحرمين»، في تشرين الأول 1986. ولقد بدا له أيامها أنّ اللقب الشكلي لا بد أن يصاحبه فعل ناجز يلمسه المسلمون، ويرونه، ويحمدون للفهد صنعه. فتحتم حينئذ أن يُشرع في التوسعة التي كانت مقررة من قبل للحرمين، خصوصاً بعد أن تضاعف عدد زوار بيت الله بفضل ثورة المواصلات الجوية، وازدادت الأموال التي يرجى جنيها من وراء إقبال الحجيج والمعتمرين.

النهب باسم الله

ثمّ ما لبث أن زيد إلى الشرعية السياسية/ الدينية المنشودة، وإلى الإنجاز الذي ستخلده كتب التاريخ وموسوعات الأرقام القياسية، أمر آخر مربح من جهتين، وجدير باهتمام آل سعود. فهم اكتشفوا أنّ العقارات المحيطة بالحرم ــ التي تنبغي مصادرتها من أصحابها، لتحقيق مشروع التوسعة ــ ما هي في الواقع إلّا «منجم ذهب خالص»، يمكنهم استثماره لأجل الربح المجزي في الحياة الدنيا، بمثل ما يمكن توسعة الحرمين نفسها أن تستثمر هي الأخرى عند الله. فالمولى سيكتب حسنات للملك «الموسّع» لبيته الحرام، بعدد كل ركعة وسجدة يقوم بها المصلون في الحرمين الشريفين!
وهكذا، فإنه تحت ستار «التوسعة» على زوار بيت الله، حدث نهب هائل للمال العام. ولعل من أبرز الأمثلة على هذا النهب، فندق «دار التوحيد» الذي يمتلكه النجل الأصغر للملك فهد، ويطل بطبقاته الشاهقة على فناء الحرم المكي. فهذا العقار الذي تتجاوز مساحته عشرة آلاف متر مربع، كان ــ في الأصل ــ من جملة الأراضي المخصصة لتوسعة الحرم، وعلى هذا الأساس فقط صادرته السلطات السعودية من أصحابه الأصليين. لكنّ الأمير عبد العزيز بن فهد، أيامَ حياة والده، استحوذ على الأرض المخصصة للتوسعة، عبر ما يعرف بـ«الصك الشرعي» (وهو بمثابة إقطاعية يهبها ملك البلاد لمن شاء من العباد (1)). ثمّ إنّ الأمير عبد العزيز لم يشأ أن يبني الأرض التي أقطعها له أبوه من ماله الخاص. لا، بل إنه لزّم بناءها لشركة بن لادن للإنشاءات، على حساب الديوان الملكي نفسه! ولمّا كان الفندق الأميري المجاور للحرم ضخماً، فقد قدرت تكلفة بنائه بما لا يقل عن مليار ريـال سعودي. وتقدّر قيمة عقار «دار التوحيد» حالياً (أرضاً ومبنى) بنحو 5 مليارات ريـال سعودي.

قبل أعوام قليلة،
نسف السعوديون جبل الكعبة التاريخي، كذلك نُسف جبل خليفة بالكامل

والظريف في هذا الموضوع، أنّ ابن فهد (من بعد أن نهب الأرض وما عليها) لم ينسَ أن يخصص لنفسه ولوالدته الجوهرة آل إبراهيم، كامل الطبقتين العلويتين من «دار التوحيد»، المشرفتين تماماً على الكعبة، من أجل أن يتفرغ الابن وأمه للدعاء إلى الله وطلب مغفرته وأجره وثوابه!

النسف باسم الله

وإذا كانت الفنادق الأميرية يمكن أن تسوّق، ضمن الدعاية السعودية، بأنها أقيمت لأجل خدمة زوار بيت الله (من الأثرياء، والقادرين على دفع تكاليف فنادق الخمس نجوم (2))، فإنّ ما لا يمكن هضمه هو ذلك البرج الشاهق الذي تقف على رأسه ساعة عملاقة. فهذا الشيء المستفز الذي أنشأه الملك عبد الله بن عبد العزيز، يظن كل من يراه أنه يحاول أن يتطاول في بنيانه تيهاً على الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل وابنه!
كذلك إنّ كثيراً من المسلمين يأسفون لقرار السلطات السعودية تدمير أعمدة الرواقين العثماني والعباسي في المسجد الحرام، ضمن إطار التوسعة، لأنّ هذه الأعمدة عمرها قرون، وهي تعدّ البقية الباقية الشاهدة على آثار السابقين. كذلك إنّ التدمير السعودي الممنهج يشمل أيضاً حارات مكة القديمة التي قامت على بيوت الصحابة والتابعين. وتلك البيوت بدورها قد دمّرها الوهابيون بعيد احتلالهم لمكة مرتين، في مطلع القرن التاسع عشر، ثمّ في عشرينيات القرن العشرين(3).
لكنّ أكثر ما يثير الحنق في نفوس المسلمين هو نسف جبال مكة التي تشكل الهوية الجغرافية للمدينة المقدسة، وعلامة معالمها الموصوفة تاريخياً. والخطورة في نسف جبال مكة، بحُجة توسعة الحرم، أنّ تلك التلال هي في ذاتها تحوي معالم كثيرة للحج وللزيارة، وهي نفسها تضمّ الآثار الكبرى للإسلام، مثل غار حِراء الذي نزل فيه الوحي على الرسول أول مرة. وهذا الغار واقعٌ في جبل النور الذي لا تنفك الآن المتفجرات السعودية تزرع فيه الدمارَ، قصد تقويضه!
وقبل أعوام قليلة، نسف السعوديون جبل الكعبة التاريخي، كذلك نُسف جبل خليفة بالكامل، وشهرته في مكة «بلبل»، وهذا الجبل هو الذي كانت تقوم فوقه قلعة مكة التاريخية، وهي قد هدمت بدورها. واليوم أقام الأمراء السعوديون مكان الجبل التاريخي المنسوف فندقاً جديداً من طراز خمس نجوم يدرّ المال الطائل لجيوبهم (هو الفندق ذاته الذي يقوم من فوقه برج الساعة). وليس جبلا الكعبة وخليفة وحدهما اللذين طاولهما آل سعود بالبلدوزرات والمتفجرات، فجبل عمر مضى (أو كاد) إلى المصير عينه، وكذلك جبل غراب، وجبل السيّدة، بل إنّ الأنكى من كل ذلك أنّ جبل قعيقعان، وجبل أبي قبيس(4) قد طاولهما هما الآخران بعض النسف، لأجل توسعة ما يُعرف بالمَخْنَقْ في مكة؛ وذلك برغم ما لهما من مكانة دينية، فهما المذكوران في السنّة باسم «الأخشَبَيْن». (تقول الرواية الإسلامية إنّ جبريل أراد أن يطبق الأخشَبَيْن على أهل مكة المشركين، بعد أن أمعنوا في إيذائهم للنبي).
ولقد سبّب هذا النسف الهائل لروح مكة، ولهويتها، ولمعالمها المميزة سخطاً في أوساط كثيرين من المكيّين الذين تسلب أملاكهم، ويُفرض عليهم بيعها لأمراء ووجهاء وأثرياء سعوديين، بل إنهم أحياناً ما يجبرون على مغادرة موطنهم ليستوطن فيه أغراب لا علاقة لهم بمكة، ولا بروحها. ولعل قنوات التواصل الاجتماعي هي الأبين في إظهار هذا السخط الشعبي، فمن خلال وسائطها يشنّ ناشطون حملات عديدة لوقف نسف مكة بذرائع واهية. ولعل من أظرف ما ظهر في هذا السياق، غمزة لأحد المغردين السعوديين على تويتر، منذ فترة، يقول فيها ساخراً: «إذا استمرّ هذا العبث بالمعالم المكرّمة، فستأتي بعدنا أجيال تعجب من وصف الله لمكّة بأنها واد غير ذي زرع. وسيُقال: أين هو الوادي؟!».

هوامش

(1) الطريف أنّ «خادم الحرمين» الملك فهد لم ينس نصيبه من الإقطاعيات المكية، فوهب لنفسه من جملة ما وهبها «قصر الصفا» المشرف بدوره على الحرم. وقد وهب أيضاً لإخوته قصوراً أخرى بجانب الحرم المكي، لا يمكن التوسعة أن تطاول منها شبراً!
(2) عملياً، من الممكن إبعاد سكن الحجاج إلى خارج مكة، مع تفعيل المواصلات إليها، وتطوير الطرقات السريعة، وسكك القطارات، وإنشاء أنفاق للمترو.
(3) هدم الوهابيون بعيد احتلالهم لمكة سنة 1925، معالم تاريخية لا تعوّض. ومن ذلك أنهم هدموا بيت النبي (ص)، وبيوت الصحابة، والأماكن الأثرية، وزوايا الأولياء، بحجّة تطهير المسلمين من الشرك. وكان من أخسّ ما اقترفه الوهابيون تدميرهم لمنزل السيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول الأولى وأم أبنائه. ولقد أقاموا في المكان الذي نزل فيه الوحي على النبي، مراحيض عامة!
(4) تعتبر الروايات الإسلامية أنّ جبل أبي قبيس هو أول جبل خلِق على الأرض، ومنه نبع زمزم. ولعل مردّ هذه الروايات أن مجاري مياه زمزم تجري حقاً تحت الجبل الذي قرر السعوديون نسف الأجزاء السفلية منه. ويقع الآن فوق هامة جبل أبي قبيس الذي يشرفُ على الحرم المكي من جهته الشرقية، قصر الملك السعودي.