غزة | الغارة الجويّة القصيرة التى مرّت هنا قبلَ دقيقتَين، أزعجتْ مقطوعتي الموسيقية الهادئة ورحلتْ بفظاظة، دون حتى اعتذار، ودونَ أن أعرف مكان القصف وسط كلّ ذلك الصدى والضباب الكثيف الذي ضج به الهواء والنافذة.قبل دقيقتين فقط، كان كلّ شيء في مكانه، وجهُ الماء في الكأس، شكلُ الليل في الشارع، ركضُ القطط الهاربة من السيارات، خطو العامِل المتعَبِ عائداً من نهاره الطويل، صفير المتسكعين على الأرصفة، سهر الشبابيك البعيدة، قبعة الشرطي الناعِسة، انتظار العروس لبياضها، أرق المسافر على الحدود، بكاء الرضيع الذي أيقظَ الجيران، رطوبة الميّت في المقبرة، سيجارة الصبيّ المُشرّد تحت ظلّ عمود الكهرباء، أحلام الأعمى الملوّنة.
قبل دقيقتين، كان كل شيء على ما يُرام، الغيم والنوم والخفافيش.
لا شكل للقصف، لا معنى لصوت الانفجار الغريب، لا سيارة إسعاف واحدة، كان ضجيجاً لثانيتين فقط وانتهى. انتهى سريعاً ونظيفاً من السواد.
وحده ذلك الهدوء الخائف ينتظرُ تفقّد الأشياء التي لم تبقَ في مكانها، ووحده جهازُ الراديو توقّفَ فجأةً في صدمة الهواء، ليعاودَ ثرثرته دون مبالاة.
بعد دقيقتين من القصف، كل شيء ليس في مكانه تماماً: غطاءُ القلم الذي سقط تحت الطاولة، ساعة الحائط التى عَلِقتْ بطرف المسمار قبل أن تقع، ستائر الغرفة الغافية التى طارتْ قليلاً عن الزجاج، ارتطام نظّارتي بحافة الكتاب، وميض ضوء النيون في السقف، ارتجاف الباب من موجة الصوت المفاجئ . ارتجاج السائل الملوّن في علبة طلاء الأظافر. خيطُ الماءِ الذي تسرّب من ثقب خزّانٍ ما مُبلّلاً الشوارع وأكياس القمامة، إشارةُ التلفاز المشوّش، غفوة الحارس في محطّة البنزين، ضجرُ الصيدلي من رائحة المرض، رفوف البِهارات في المحلّ المجاور، حمّالو الصناديق الممنُوعة، صفّارةُ المجنون الذي يعرُجُ قليلاً حين ينظّمُ حركة سَيرِه الوهميّة على الرصيف ، يُؤرجِحُ يديه كقائد اوركسترا مُضحِك، ويتصّلبُ كإشارة مرور معطوبة.
بعد دقيقَتين، أكتشفُ بُقعاً شاحبة على الحائطِ سيئ الدِهَان، أتذّكرُ أسماءَ الكتبِ المستعارة التى لمْ أُعدْها بعد إلى المكتبة، إصلاح سواري المكسور، استبدال حجر البطارية في ساعة المنبّه، مفتاح غرفتي الضائع، قطع ملابسي الجافّة على حبل الغسيل. أتذّكرُ أشياء تافهة وصغيرة، نِكات بذيئة، مواعيد مهملة، رسائلي المُغلقَة في البريد. لا علاقة لذاكرتي بهذه الليلة ولا أعرفُ لماذا تنسابُ منّي الآن إلى هذا الحدّ!
أعدّ بلاطات الغرفة، أدراج المكتب، خرز خاتمي، زوايا الجدران، حبوب شَريط الأسبرين مُكتملة، زخارِفَ سجّادة الصلاة التى لا أستخدمها، ولا أدري لمَ هي هنا الآن. لا علاقة لهذه الليلة بي، لا علاقة لي بها. أراقبُ مشي نملةٍ صغيرة تقطعُ البلاط ببطء، أتجنّبُ إلقاء التحيّة عليها، أسيرُ بجوارِها في هدوء أسخرُ من حجمها قليلاً. أتجاوزُ المسافة الفاصلة بين السرير ومفتاح الضوء الذي يعلو قامتي .. قليلاً، أحدّقُ في العتمة تحدّقُ العتمة بي، كلتانا لا تري الأخرى فى المرآة، فتصيبني نوبة ضحكٍ مكتوم. هذه المرة أذهبُ للنومِ دون أن أغسلَ أسناني، دون أنْ أخلع جواربي وأُسرّح شَعري، دون َ أن أشرب كوب النعناع المغليّ بأعواد القرفة، دونَ موسيقى، دون كريم الهالاتِ السوداء ومرطّب البشرة، دونَ البخّاخ المُوسِّع لشُعَب قصبتي الهوائية، أذهبُ للنومِ دون نوم وأحسدُ في سِريّ تلك النملة.



نشاز موسيقي

تعودُ طائرة أخرى ثقيلة، يصيرُ القصف بعيداً وبطيئاً كصوت لعبة فيديو مملة، كسُعال عجوز كئيب، فتأكلُ الغارات شارةُ نهاية البثّ الموسيقية في الراديو. ترى.. ماذا يشربُ الطيّار الاسرائيلي الآن في طائرتهِ؟ ربما يشعرُ بالملل قليلاً، يشتاقُ لحبيبته، وربما له أطفال هادئون بخدود منتفخة، يشربون الحليب صباحاً مع رقائق «الكورن فلكس»، وتسوّس الحلوى الرديئة أسنانهم، وقد تصيبهم حكايات أبيهم الطيّار بفوبيا الأماكن المرتفعة! تبتعد الغارات كمزحةٍ ثقيلة الظلّ، تأكلُ طرف اللحن المتبقي في المحطة الإذاعية، تبتلعُ الأغنيات وإشارة البثّ وإيقاع الكلام. كم يزعجني نشازُ الموسيقي!