رام الله | «عشرون دقيقة أحيت مشاعر عشرين سنة، ولكن عند الفراق كان اللقاء كأنه 20 ثانية فقط»، هكذا وصف «أبو أحمد» لقاءه بأخته آية بعد انقطاع دام عشرين عاماً. هي من قطاع غزة، وجاءت إلى القدس المحتلة ضمن التصاريح الإسرائيلية المحدودة لأهالي القطاع كي يزوروا المسجد الأقصى. استغلت هذه الفرصة للقاء أخيها الذي غادر غزة منذ 19 عاماً وقطن في رام الله.
أبو أحمد، يبلغ الآن من العمر 52 عاماً. بدأت حكايته في الانتفاضة الأولى، التي تعرف خلالها على أم أحمد، وهي من الضفة المحتلة. تقدّم لخطبتها، لكن عملية «عيون قارة 20/5/1990»، التي راح ضحيتها سبعة عمال فلسطينيين من مدينتي خان يونس وغزة، قلبت حياته رأساً على عقب. فمع انتقالهما للعيش في غزة بدأت الأوضاع السياسية والأمنية بالتدهور. وصحيح أنهما سكنا هناك ورزقا أول مولود (ريم)، ثم آلاء، ولكن الولد الثالث (أحمد) احتفل والده بخبر مجيئه إلى الحياة وقد كان في سجون الاحتلال.
يقول الرجل، الذي يتحفظ على ذكر اسمه حتى لا يتضرر، إنه «ألصقت به تهمة الاعتداء على جندي إسرائيلي»، فلجأ إلى خاله وهو يعمل محامياً من أجل الدفاع عنه في محكمة للعدو، ولكن خاله كان على خلاف شديد مع القاضي الإسرائيلي، لذلك اضطر إلى توكيل محام آخر نجح في تخفيف الحكم عليه ليسجن ستة أشهر فقط.
خلال تلك المدة، أصيبت زوجته بأزمة صدرية كبيرة، بسبب أجواء الشتاء وامتلاء الأجواء بدخان القنابل وإطارات السيارات المشتعلة. بسبب ذلك، أصر الأطباء على أن تعود إلى رام الله، حيث البيئة الجبلية التي تربت فيها، فالهواء هناك جاف ونقي، وهو الأفضل للمساعدة على شفائها.

من سجن غزة إلى سجن آخر

لملمت أم أحمد أمتعتها، أغلقت الحقائب. ودّعت شاطئ غزة الذي لا يحظى أهل الضفة برؤية البحر منه أو من ساحل غيره. ولأن السفر قطعة من جهنم بالنسبة إلى الفلسطيني، كان لا بد لزوجها من السفر إلى دولة أخرى، ثم الذهاب منها صوب الضفة. لم يكد أبو أحمد يصل إلى رام الله عام 1996 ويلم شمل عائلته، حتى بادر إلى الذهاب إلى دائرة «الشؤون المدنية» لتغيير عنوان إقامته، فالفلسطيني لا يستطيع العمل أو التنقل بين المدن دون عنوان صحيح ومكان إقامة واضح. ظن في البداية أن هذا الأمر لن يحتاج إلا الى أيام معدودة، لكن الأيام صارت شهوراً، بل تحولت إلى 19 عاماً. طوال تلك السنوات التي اشتعلت فيها الانتفاضة الثانية، عاش الرجل الخوف من التنقل أو الحركة، حتى لا يجري ترحيله إلى غزة وتتشتت العائلة. يقول: «من وقت ما جيت ع رام الله لا قدرت اطلع ولا افوت. حياتي صارت إقامة جبرية وصرت مقيد بحدود 10 كيلومتر». حتى جاء حزيران الماضي، وتحديداً عندما أتى موظف من جهاز «الأمن الوقائي» إلى ضيافة ابنه أحمد. ومن حديث إلى آخر، علم ذلك الموظف معاناة العائلة، وما هي بضعة أيام حتى حلّت الواسطة ما لم يعالجه القانون، بل أكد الموظف أنه لم يكن من عائق في الأمر سوى إهمال بعض المسؤولين والموظفين. لم يدر الوالد هل عليه أن يبكي أم يفرح، لأن التقصير في تغيير العنوان حرمه رؤية والديه قبل مفارقتهما الحياة. ومع أن حالته ستسقر في الضفة، فإنه لن يكون قادراً على زيارة غزة بسبب الحصار، والمنع الأمني الذي يحتم منع دخول أي أحد إليها أو الخروج منها بسهولة.
برغم ذلك، جاءت التصريحات الإسرائيلية الخاصة لمن هم فوق الخمسين من أهل غزة كي يزوروا القدس. من ضمنهم كان اسم شقيقة «أبو أحمد» التي سمح لها بالوصول للصلاة في الأقصى لساعات.
رنين الهاتف صدح في منزل «أبو أحمد» معلناً قرب وصول أخته. يقول: «ليلتها ما نمنا بالمرة، رنت علي أختي الساعة 3 إلا ربع الصبح وحكت هلأ بدهم يتحركوا، كانت العواطف مخربشة، شوق، فرحة، أمل وخوف، ومش مصدق اني رح أشوفها». ويضيف: «للمرة الأولى ما انزعجت من الازدحام على المعبر، ولا انتبهت ع حر الشمس والعطش.. كان شوقي للقاء يملأ احاسيسي»، متابعاً: «قبل صلاة الظهر، وصلت وصرت أفتش عليها بين الوجوه، حاولت أتصل كتير بس الجوال ما كان يلقط بالمنطقة. قدرت تحكيني وخبرتني انها عسطح الصخرة، صار قلبي بده ينط ويطلع لفوق قبلي». جاءت لحظة اللقاء. أخته الخمسينية تركض وخمارها الذي تبلسه يرفرف مع الهواء. لم يدم اللقاء سوى ثلث ساعة بسبب جدول الزيارة المقيد. رافقها حتى باب الأسباط. يضيف: «ما عرفت شو بدي احكيلها فيهم، قلتلها هاي نحنا التقينا والحمدلله، لكن بعد هيك الله يعلم... ان شاء الله نلتقي بالجنة...ما ضل بالعمر شي». وبضمّة مشتاق وقلب مفارق، ودّع أبو أحمد أخته، على أمل أن لقاءً مثل هذه «المعجزة» سيتكرر.