المنامة | ربما طرأ على بال الإيرلندي ابراهام ستوكر، مؤلف القصة الشهيرة «دراكولا»، أنها ستحوز نجاحاً تاريخياً قل نظيره، وأنها ستُمثّل في نحو ١٦٠ فيلماً، لكنه بالتأكيد لم يتوقع أن يوضع لقصته سيناريو رديء من إخراج السلطات البحرينية عبر اتهامها ٤٧ طبيياً، هم أشهر أطباء البحرين والخليج، بقتل المصابين في «ثورة ١٤شباط»، وأنهم مجموعة قتلة يشقّون الأرجل ويحفرون الرؤوس ويحرقون جلود الأطفال والرجال والنساء المتظاهرين.
سيناريو رديء وضعته الاستخبارات العسكرية وتلاه على الرأي العام وزير العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف الشيخ خالد بن علي آل خليفة، فيما كانت الوزيرة المكلفة بشؤون الصحة فاطمة البلوشي تجلس إلى جانبه. النسخة البحرينية تقول إن ٤٧ طبيباً وممرضاً ومسعفاً بقيادة الاستشاري المعروف علي العكري، اختلقوا إصابات في أشخاص، وأحدثوا إصابات إضافية عمداً بقصد استظهار جسامة الإصابة على خلاف الحقيقة، ثم يصوّرونهم وينشرون صورهم بغرض الإساءة إلى سمعة المملكة. وتضيف الاتهامات أن عمليات جراحية أُجريت لا حاجة إليها ولا ضرورة لها، وسُمح للمراسلين وللقنوات الفضائية بدخول غرف العمليات لتصويرها أثناء إجرائها، مع تعمّد إظهار فتحات الجراحة على نحو جسيم لتحقيق أكبر قدر من التأثير على الرأي العام. وقد نتج من ذلك وفاة مصابين بسبب إصابات أُحدثت عمداً. وقال الوزير إن الأطباء احتلوا المستشفى وسمحوا لمخربين بحراسته، فيما هم بالطبع يقطّعون ويحفرون في أجساد الناس.
وحدّد الوزير ثلاث عشرة تهمة لهؤلاء الأطباء، منها «الامتناع بغير عذر عن إغاثة الناس، اختلاس أموال عامة، الاعتداء على سلامة جسم الغير، الاعتداء المفضي إلى الموت، حيازة أسلحة وذخائر بغير ترخيص، الامتناع عن أداء أعمال الوظيفة بقصد عرقلة سيرها بما كان من شأنه جعل حياة الناس وصحتهم في خطر، حجز الحرية بغير وجه قانوني، محاولة احتلال مبنى عام بالقوة، الترويج لقلب النظام وتغييره بوسائل غير مشروعة، التحريض على كراهية النظام وعلى بغض طائفة من الناس، والاشتراك في مسيرات غير مرخصة».
اتهامات تدحضها حقيقة ما جرى. في يوم ١٤ شباط، انطلقت الاحتجاجات وسقط القتيل الأول علي مشميع. وفي اليوم التالي سقط الثاني فاضل المتروك. كان مجمع السلمانية الطبي الذي يضم أمهر الأطباء، هو المكان الذي حفظ أرواح مئات الجرحى بفضل تفاني القسم الطبي. القسم مستقل تماماً وخارج تأثير الدولة، لذلك أصدر الأطباء شهادات وفاة توضح الأسباب الحقيقية للقتيلين، رغم تدخلات وزير الصحة السابق فيصل الحمر.
وعندما أقدمت قوات مشتركة من وزارة الداخلية والجيش على اقتحام دوار اللؤلؤة فجر 17 شباط وقتلت أربعة محتجّين، وفرّ المعتصمون يحملون مئات الجرحى إلى مجمع السلمانية الطبي، هرعت الطواقم الطبية عبر سيارات الإسعاف إلى موقع الحدث، فضُربت واعتُدي عليها، وبينهم الطبيب علي العكري، المتهم الأول في القضية. ضُرب، وخُلع بنطاله وهُدّد بالاغتصاب.
تدخل الحمر في ساعات الصباح الأولى لمنع الأطقم الطبية من الذهاب إلى الدوار وإسعاف مصابين. مرّت أكثر من أربع ساعات والناس في مجمع السلمانية يصرخون ويستغيثون لإنقاذ الجرحى المتساقطين قرب الدوار وعلى الطريق المتجه إلى المستشفى. عندها قرّر ثلاثة من الأطباء والممرضين والمسعفين، بينهم العكري، التحرك، فخرجوا في مسيرة داخل المستشفى ضدّ قرار الوزير، وطالبوه بالاستقالة. وخضع الوزير في النهاية بعدما وقّع أكثر من 4 آلاف من منتسبي الحقل الطبي على عريضة لإقالته. خرجت سيارات الإسعاف وعولج المصابون، ووثّقت كل الانتهاكات بحق المتظاهرين، وأُنقذت عشرات الأرواح.
النظام لم يتحرّك أمام العنف الوحشي الذي استخدمه جنوده، لكنه حمل على الأطباء لوقفتهم الإنسانية، ولا سيما مع الانتقادات الدولية التي وُجّهت إلى النظام بسبب منعه الإسعافات عن المصابين، حيث أصدرت الفدرالية الدولية لطب الطوارئ بياناً أدانت فيه موقف وزير الصحة.
بعد يومين من الاقتحام الأوّل، عاد عشرات المتظاهرين إلى دوار اللؤلؤة الذي كان قد أصبح تحت سيطرة الجيش، لكن الأخير فتح أسلحته على المتظاهرين العزل، فوقعت إصابات. وفي وقت لاحق تعرّض آخرون للاختناق بسبب قنابل الغاز. ومع توسّع المواجهات في مناطق أخرى، وصل عشرات المصابين إلى المستشفى، أُنقذ ما أمكن، لكن المصاب عبد الرضا بوحميد كانت حالته صعبة، فأُجريت له عملية صعبة، صمد لثلاثة أيام قبل أن يتوفى.
ومع عودة المتظاهرين إلى دوار اللؤلوة، أقام الأطباء خيمة للإسعافات، وخُصّصت سيارات إسعاف بموافقة وزير الصحة الجديد نزار البحارنة، قبل أن يُعلن الأطباء والممرضون والمسعفون تضامنهم مع المتظاهرين ومطالبهم التي تتضمن خيار إنشاء مملكة دستورية.
تبيّن للسلطة أن الجسم الطبي خارج السيطرة، وأنه سبّب لها الكثير من الصداع. وثّق الأطباء كل شيء، أعداد القتلى والمصابين والأسباب الحقيقية للوفاة أو الإصابة، وأنواع الأسلحة والغازات المستخدمة، وسمحوا للطواقم الإعلامية بتصوير الانتهاكات، بحيث أصبحوا أحد أهم المصادر الخبرية خلال الاحتجاجات. ولهذا، كان أول أهداف تجمع الوحدة الوطنية، بقيادة عبد اللطيف المحمود الموالي للسلطة، هو التحريض على الأطباء تحت مسميات مختلفة. تارة يتهمهم باحتلال السلمانية، وتارة أخرى بممارسة الطائفية مع المرضى غير الشيعة.
وللمفارقة، فإن الاتهامات التي أطلقها هي نفسها التي تنسبها النيابة العسكرية حالياً إلى ٤٧ من أفراد الجسم الطبي. معه بدأت مرحلة تشويه صورة الأطباء تمهيداً لعقابهم.
بعد إعلان أحكام السلامة الوطنية (الطوارئ) واقتحام مستشفى السلمانية من قبل الجيش وقوات «درع الجزيرة»، جرت خلال ثلاثة أيام أكبر عملية انتهاك لطاقم طبي في العالم خلال العقدين الأخيرين، على حدّ تعبير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، في تقرير صدر خلال نيسان.
استقال البحارنة، وأُسندت الوزارة إلى فاطمة البلوشي، لكن الإدارة الحقيقية كانت للجيش الذي عيّن إدارة عسكرية للمستشفى برئاسة العقيد الطبيب عبد الرحمن صالح بو علي، وأطلق العنان للانتقام من الأطباء. اعتُقل علي العكري من داخل غرفة العمليات أثناء إجرائه عملية جراحية لأحد المرضى، وتلاه اعتقال عدد من الأطباء والممرضين والمسعفين، والاعتداء على العشرات، وكان الإجراء الأكثر وحشية هو إخراج الجرحى من قسم العناية المركزة واقتيادهم إلى أماكن مجهولة حتى اللحظة.
ريتشارد سولوم، نائب مدير منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، قال لصحيفة «الإندبندت» البريطانية ولقناة «سي أن أن» الأميركية: «بعد عقدين من العمل في تحقيقات حقوق الإنسان في أكثر من عشرين دولة، لم أرَ قط مخالفات واسعة ومنهجية في الحياد الطبي كما رأيت في البحرين. سيارات الإسعاف، المستشفيات، المراكز الصحية، الأطباء، الممرضون، الطاقم الطبي، كلهم مستهدفون».
جرى إذلال العاملين في القطاع الطبي، وتسرّبت قصص مرعبة ومهينة، كان بينها إجبار إحدى الطبيبات على غسل الحمامات في المستشفى يومياً. هذا فضلاً عن الهجوم دورياً على المراكز الطبية، وفرز الموظفين والعاملين على أساس طائفي، ثم الاعتداء على العاملين الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية.
أبرز هجوم كان دخول قوّات من الجيش إلى مبنى وزارة الصحة ومحاصرته منعاً لخروج أي أحد، ثم الدخول مكتباً مكتباً وطبقة طبقة، وضرب الموظفين الشيعة، وإجبار بعضهم على الحبو أمام زملائهم. وبدأت إجراءات التحقيق والاعتقالات، واقتيد الأطباء والممرضون، نساءً ورجالاً، إلى السجون. تحقيقات قاسية وتعذيب أجبرتهم على الاعتراف بأنّهم من قتلوا الشهداء، وأنّهم حفروا الأجساد، وزوّروا وفبركوا كل شيء. قالوا إنهم مجموعة جزارين يتسلّمون الضحايا من يد المعارضة فيقتلون ويجرحون بعضهم. وقُدّر عدد المعتقلين والموقوفين عن العمل من الأطباء أكثر ١٠٠ شخص، وتحوّل مجمع السلمانية الطبي إلى ثكنة عسكرية.
سيناريو «دراكولا» أقرّ به ٤٧ من الأطباء والممرضين والمسعفين على أنفسهم تحت التعذيب، لكنه بيّن أن القطاع الطبي في البحرين تعرض لعقاب أسود من قبل جيش ملثّم لا يجرؤ أيّ من عناصره على كشف وجهه أمام أبناء الشعب أو أمام الكاميرات.



تضامن لبناني

اعتصم أطباء لبنان وممرضوه أمام مبنى الإسكوا في وسط بيروت، أول من أمس، تضامناً مع نظرائهم المعتقلين في البحرين، بدعوة من تجمع الأطباء في لبنان والهيئات والجمعيات الصحية والطبية. وطالبت الطبيبة ليلى أنطونيوس، في كلمة أمام المعتصمين، المجتمع الدولي بالعمل للإفراج عن الأطباء والممرضين البحرينيين، فيما ألقى رئيس تجمع أطباء لبنان غسان جعفر رسالة موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، تستنكر «أشد الاستنكار تعرّض سلطات البحرين لزملائنا من العاملين في الجسم الطبي»، وتضع تصرفاتها ضمن خانة «الجرائم ضد الإنسانية». وطالبت هذه الرسالة بالتدخل الفوري لوقف هذه التعديات، وعقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن الدولي، والضغط على حكومة البحرين للتوقف الفوري عن قمع المدنيين المطالبين بالحرية والعدالة.