غزّة | راجت خلال أعوام الحصار الماضية، في قطاع غزة، ما يعرف بمحالّ البالة. ورغم وجودها منذ عقود، إلا أنها شهدت تزايداً غير مسبوق في أعدادها، بسبب سوء الظروف الاقتصادية، علاوة على لجوء عدد من العاطلين من العمل إليها، كمصدر رزق. وسوق البالة اسم يطلق على المحال التي تبيع الملابس والأحذية والأثاث الإسرائيلي المستعمل، للمواطن الغزّي.نائل كحيل، ورث محل البالة عن أبيه، وهو مصدر دخله الوحيد منذ 20 عاماً. «هذا المحل عمل فيه والدي مذ كنت طفلاً، فعمر السوق يزيد على 60 عاماً. عمره من عمر إسرائيل تقريباً»، يحدّث كحيل عن سوق البالة وقد كسا جسده ببنطال وسترة من بضاعته، إذ لم يرتدِ، منذ أن عرف هذه المهنة، إلا الملابس المستعملة.
محل كحيل واحد من بين ما يزيد على 30 محلاً متراصاً، في أحد ممرات سوق فراس شرق غزة. تتوزع أصناف مختلفة وغير متجانسة من الألبسة المتعددة الألوان على شمّاعات نحاسية. المحل الواحد لا تزيد مساحته على 16 متراً مربعاً، وتبلغ أجرته التي تدفع للبلدية في العام الواحد نحو ألفي دولار. «إيجار المحل باهظ، وخصوصاً أن البيع لم يعد كما كان سابقاً، بسبب التحاق الكثير من العاطلين من العمل بمهنتنا»، يقول كحيل.
ويوضح نصر أبو معيلق، أستاذ الاقتصاد الإسرائيلي، أن شركات إسرائيلية متخصصة تعمل على جمع المواد المستخدمة، ومخلّفات السكان من الأجهزة الكهربائية وغيرها، لتصديرها وإعادة بيعها إلى قطاع غزة. «الأمر ليس مقتصراً على ذلك فحسب، حتى الفائض عن السوق الإسرائيلي من الخضروات والفواكه، الذي كان دائماً يُنقل إلى الأسرى في السجون، أصبح يباع للقطاع. غزة بالنسبة إلى إسرائيل مرمى نفايات»، يردف أبو معيلق بغضب.
ويذهب أبو معيلق إلى حد القطع جزماً بأنه «ليس هناك مجتمع في كل العالم يستقبل مخلفات مجتمع آخر سوى المجتمع الغزي. إلا إذا اعتبرنا استقبال بعض الدول العربية الفقيرة السيارات المستعملة من الدول النفطية أمراً مشابهاً، أما غير ذلك فلا».
وفي العقيدة اليهودية، يعمد أتباع الديانة في عيد «بيسح» (الفصح اليهودي)، في نيسان من كل عام، إلى استخدام أوانٍ جديدة والتخلص من القديمة، وتجديد أثاث المنزل. كل ذلك كان يستغنى عنه برميه، قبل اكتشاف قطاع غزة كسوقٍ يدرّ الكثير من المال.
«قديماً، كان هناك عدد أقل من المحال، وأصناف مختلفة من البضائع. كنّا نبيع مصنوعات خشبية وخزانات قديمة، ولم تكن الألبسة سوى إحدى سلعنا»، يشكو نائل كحيل سوء الحال الذي آلت إليه السوق. تذمّر كحيل سببه زيادة العرض وقلة الطلب، فقد كان مع والده سابقاً أحد القلائل الذين يمتهنون هذه المهنة. أصبح كثيرون اليوم يلجأون إلى بيع البالة، ولم يعد سوق فراس وجهة الناس الوحيدة. في كل محافظة من محافظات قطاع غزة الخمس، بات هناك محال لبيع البالة، ولا يميّز سوق فراس عنها سوى تاريخيّته، وشهرة تجّاره.
محمود الشوا، يعمل أجيراً في أحد المحال. أنهى الشوا دراسته الجامعية قبل عامين، حاصلاً على إجازة في درجة البكالوريوس من قسم الصحافة والإعلام في جامعة الأزهر. «لست الجامعي الوحيد هنا. هناك ثلاثة آخرون غيري. أعمل هنا لعدم وجود فرص عمل، ولا أجد حرجاً في ذلك. على الأقل عملي يمكّنني من تحصيل 30 شيكلاً يومياً، ما يكفيني قوت يومي»، يقول الشوا.
يقطع الشوا حديثه، ويتوجه صوب إحدى زبوناته التي دخلت المحل، برفقة ابنتها الشابة. تقلّب أم سالم مجموعة من التنانير النسائية قبل أن تنتقي إحداها. ثمّ تشرع في مفاصلة طويلة مع الشوا بشأن ثمنها. «أنتم تحققون أرباحاً طائلة من وراء بيعكم لهذه الخردة، ولولا سوء الحال لما دخلت محالّكم أصلاً. تكفيك 5 شواكل ثمناً لهذه الخرقة»، توجّه أم سالم حديثها للشوا.
وتقول ابنتها «هذه الملابس مستعملة، وعلينا أن نغسلها وننظفها مرات عدة قبل ارتدائها. لكنّها خيارنا الوحيد الآن».
منذ عام تقريباً، عاد للسوق نشاطه. خلال سنوات الحصار المشدد، منعت إسرائيل إدخال البالة إلى القطاع. ومع قرار تخفيف الحصار، الذي أعقب مجزرة أسطول الحرية في أيّار من العام الماضي، عاودت السماح بإدخالها. لكّنه سماح مقنّن. «قبل الحصار كان يصلنا كل شيء: أجهزة كهربائية وأدوات منزلية وأحذية وملابس، وألعاب. أما اليوم فمعظم ما يبيعوننا إيّاه هو الملابس ... حتّى الألعاب تمنع»، يشرح نائل كحيل متذمّراً. «أغلقت محلي 3 سنوات كاملة، كنت أدفع إيجاره دون أن أكسب ولو شيكلاً واحداً»، يضيف.
«أسواق البالة ليست موجودة في غزة فقط، هي موجودة في كل العالم. لكنّها لدينا تكتسب أهميةً خاصة، بسبب إقبال مختلف الشرائح على الشراء منها، ولخصوصية من يورّدها لنا»، يقول كحيل. ويضيف «في الدول الأخرى، يبيع الأغنياء ملابسهم المستعملة للفقراء، أما هنا فنبيع ملابس اليهود المستعملة للعرب».
بالة متدنّية الجودة
وبحسب كحيل، فإن التجار اليهود يبيعونهم البالة بالكيلوغرام. الكيلوغرام الواحد ثمنه 5.50 شواكل. التجار الإسرائيليّون بدورهم يستوردونها من الدول الأوروبية بأثمان بخسة، ليبيعوها لقطاع غزة. مصدر آخر من مصادر البالة هو تبرعات يهود أوروبا وأميركا للمستوطنين. الجمعيات الاستيطانية تعطي المستوطنين على قدر كفايتهم، وتبيع الباقي للتجّار الإسرائيليين ليشتريها منهم تجار غزيون.
«البالة التي تصل إلى إسرائيل من أوروبا أكثر جودة وأفضل فرزاً. أما نحن فنشتريها من الإسرائيليين مبعثرةً وغير مفروزة. يحتوي الطن مثلاً على أمور لا حاجة لنا بها، كالشرائط القماشيّة التي لا يمكن بيعها. أحياناً نجد أن ما يصلح للبيع لا يزيد على ثلث الكميّة المُشتراة، وهذا كلّه يتحمّله زبوننا»، هكذا يعلّل كحيل سبب الارتفاع النسبي في أسعار القطع المعروضة للبيع. «البضاعة الصينيّة، والمهرّبة عبر الأنفاق منافس قوي من حيث السعر لما نبيعه، على خلاف ما كان سابقاً»، يضيف كحيل رغم إصراره على أن جودة بضاعته المستعملة تبقى أفضل بكثير من البضاعة الجديدة المستوردة، لأن ما يبيعه هو ماركات عالمية، على ما يقول.
ولا يرى نصر أبو معيلق فائدة تُرتجى في مقاطعة الفلسطينيين للبالة استغلالاً لتدني أسعار البضاعة الصينية والمصريّة المهرب. «لدينا في غزة عقدة الإسرائيلي، كما لدى المواطن العربي عقدة الأجنبي. مجتمعنا يفضّل الإسرائيلي، ولو كان مستعملاً، على المنتج الجديد حتى لو كان عالمياً. ثمة مشكلة ثقافية».



ضرائب ونقل

الربح المتحقق من بيع البالة لا يعود للشركات الإسرائيلية الخاصة فحسب، بل تستفيد، في جزءٍ منه، الدولة أيضاً. «كل سلعة تدخل إلى القطاع تفرض وزارة المال الإسرائيلية ضريبة عليها، ويكون للسلطة الفلسطينية نصيبها من هذه الجباية، لكنّها تجمع على المعابر من الجانب الإسرائيلي»، يوضح نصر أبو معيلق. وتصل تكلفة النقل للشاحنة الواحدة عبر معبر كرم أبو سالم، جنوب القطاع، إلى 5 آلاف شيكل. يقول أبو معيلق «بمعنى أن تكلفة نقل البضاعة من الصين إلى ميناء أسدود، أقل بالنسبة إلينا من تكلفة النقل من أسدود إلى قطاع غزة. تكلفة النقل أكبر من ثمن المنتج الإسرائيلي ذاته». وبحسب أبو معيلق، فإن «الأسوأ من ذلك، أننا بعد أن تتعطل ثلاجاتنا وغسّالاتنا، نعمد الى بيع هياكلها لشركات إسرائيلية بأثمان رخيصة، فتستغلّها بصهرها حديداً، ومن ثم تعود لبيعها لنا مرةً أخرى ضمن مستلزمات البناء»، يلفت أبو معيلق مستهجناً.