قفصة| كان الريف التونسي مُشعل الثورة العربية الأولى، التي فتحت الباب على ثورات متنقّلة في العديد من الأقطار. أربعة أشهر مرّت على الثورة التي انطلقت تحت عنوان واحد «الشغل، ولا شي غير الشغل»، من دون أن يتغيّر واقع الحال بالنسبة إلى هؤلاء الذين خرجوا هاتفين «التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق».
أربعة أشهر مرّت، وأحزاب سياسية تأسست وأخرى لا تزال تبحث عن عنوان يجمع حوله العديد من المتهافتين، لجان محلية لحماية الثورة، في كل قرية ومدينة مجالس جهوية بتركيبة سياسية. وجوه تنادي بقطع دابر حزب بن علي (التجمع) في العلن، وتدعو المنخرطين فيه إلى الانضمام إلى أحزابها في الخفاء.
سيدي بوزيد، ولاية لم يكن العالم يعرف عنها الكثير، حتى التونسيون كل ما يعرفونه أنها ولاية فلاحية، وتُعرف أيضاً بكثرة ولائها للتجمع، الحزب الحاكم في العهد المخلوع. فجأةً يقدم محمد البوعزيزي على حرق نفسه احتجاجاً على أوضاعه الاجتماعية، لتندلع شرارة الثورة ذات يوم من أيام كانون الأول. فرّ الرئيس المخلوع وبقيت بوزيد على حالها، لا شيء فيها تغيّر، مسؤولو الدرجة الثانية هم أنفسهم. وأما المسؤولون المغضوب عليهم، فقد بقيت أماكنهم شاغرة.
«الوعود كثيرة وآفاق الشغل واعدة، وسوف نسعى كل من موقعه إلى إيجاد حلول عاجلة لمعضلة البطالة»، هذا ما يردده كل مسؤول تدق بابه، حسبما يقول محمد، العاطل من العمل. ويضيف «نعم كنا وما زلنا نطالب بحقنا في العمل، وهو مسؤولية الدولة، وإن كنا قد ثُرنا من أجل هذا الحق، فالثورة تعني أيضاً الحرية والكرامة، وهما شيئان لا يتحققان إلا بتغيير المفاهيم والثورة على السائد، وحتى الهيئة الوطنية لتحقيق مكاسب الثورة والانتقال الديموقراطي لا تمثل كل الشعب التونسي، وبالتالي، فهي لتحقيق البعض مطالب فئوية على حساب مطالب الغالبية».
أين المستثمرون الذين وعدوا ببعث مشاريع قادرة على استقطاب اليد العاملة؟ هكذا بادر أيمن، من سيدي بوزيد، بالسؤال. ويضيف: «سمعنا في أواخر أيام الرئيس الهارب أن العديد من رجال الأعمال أعربوا عن استعدادهم للاستثمار في الجهة، وبعد هروب بن علي يبدو أنهم فروا معه الى جهة غير معلومة». ويتابع «كل الأحزاب التي قدِمت إلى ولاية سيدي بوزيد حاولت استدراج أهالي المنطقة بالحديث عن وطنية أهالي بوزيد ودورهم في الثورة، دون أن تبادر إلى تقديم حلول عملية لمجابهة الفقر والبطالة».
وفي قفصة، التي عرفت شرارة الثورة منذ سنوات طوال، كانت آخرها انتفاضة الحوض المنجمي، لم تتحقق أهداف الثورة، كما يقول حاتم، وهو ناشط سياسي عاطل من العمل. ويضيف «المتابع للوضع في قفصة يشعر بالقهر والغبن، ويرى أنّ الثورة تُصادَر وتُحيَّد عن مسارها».
السلطات الجهوية في ولاية قفصة، في محاولة منها لامتصاص الغضب، بادرت إلى تفعيل المجالس المحلية للتنمية والإسراع في انعقادها. وقد قدّمت عدداً من الأرقام، التي تبدو في مجملها مطمئنة متى كانت الجهات المعنية قادرة على تحقيق هذه الأرقام ميدانياً، فيما ترى أطراف أخرى، وجّهت إليها الدعوة لحضور فعاليات هذه المجالس، لكنها قاطعتها، أن المجالس، ولا سيما الخاص بقفصة، مجرد هيكل من بقايا النظام السابق، باعتبار أن تركيبتها، في معظمها من ممثلي الأحزاب التي عُرفت بولائها لبن علي، وهو تأكيد أن الثورة لم تكتمل، وأن القطع مع الماضي أمر صعب المنال.
ولايات القصرين، الكاف، جندوبة، وكل الولايات الداخلية التي أسهمت في إنجاح الثورة، بقيت كما كانت قبل الثورة، مجرد وعود دون تنفيذ. فالمتابع عن قرب للأحداث المتسارعة في تونس، قبل 14كانون الثاني وبعده، يؤكد حقيقة واحدة تتمثل في تواصل القطيعة بين الأحزاب السياسية والمواطن العادي. هذه القطيعة، التي سعى إليها بن علي، لم تجد الأحزاب السياسية حلّاً لها. فحتى الاجتماعات التي تُعقد بقيت مقتصرة على منخرطي الأحزاب وبعض المتعاطفين، وهم في جميع الحالات قلّة لا تمثل ثقلاً انتخابياً يوحي بتغيير الواقع السياسي في البلاد، وإن كان مطلوباً اليوم من الأحزاب التي كانت تعرف في عهد ما قبل 14 كانون الثاني بالراديكالية، والتي لم تدخل باب الطاعة، أن تسعى الى إيجاد الحلول العملية للقطع نهائياً مع الماضي، وأن تعمل على إعادة الثقة إلى الشباب الذي أنجز ثورته.