عاد الازدحام إلى سنترالات صيدا ومخيمي عين الحلوة والمية ومية، مع تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع المحاصر. هكذا، يقف الغزاويون من أهل مخيمات صيدا ينتظرون دورهم للتحدث إلى الأهل، متخوفين من استفادة إسرائيل من أن أنظار العالم مسلطة على ليبيا واليمن ومصر والبحرين، لشن عدوان مدمر كالأخير الذي شنته على القطاع. إلا أن الثورات العربية ليست مصدر تخوف لأهل غزة، حين نعرف أن الغزاويين باتوا يتنفسون قليلاً من جهة مصر، تماماً من المكان الذي أراد مبارك ونظامه أن يقفله على رئات الغزاويين.«غزة لا تهتزي، شدة ورح بتزول»، يهتف محمود الأسود (60 عاماً)، وهو غزاوي من سكان مخيم عين الحلوة، بعدما أنهى للتوّ مكالمة هاتفية بابنته سعاد، التي هاجرت منذ سنين، والمقيمة هناك في حيّ الزيتون في القطاع المحاصر منذ أكثر من أربع سنوات. انفرجت أسارير الرجل بعدما أبلغه حفيده مروان (سبع سنوات) أن غارة إسرائيلية استهدفت حيّهم، لكنها لم تصبهم بأذى. «ماما وبابا وإخوتي بخير»، قال الولد، وأردف بلهجة الصغار الذين يرددون ما يلقنهم إياه الكبار: «وبدك إشي يا سيدي؟ أنا رايح للمدرسة». أكثر من ذلك، لم يكن الجد يريد شيئاً. الحمد لله، قال؛ فهو لم يكن قد نام ليلته بعدما شاهد على شاشات التلفزة صور الطائرات الإسرائيلية تقصف حي الزيتون، وعرف أن هناك قتلى وجرحى سقطوا. «كيف لي أن أنام وبالي مشغول على ابنتي وعيالها الستة هناك؟»، يقول لـ«الأخبار». هواجس الليل بدّدها اتصاله النهاري بابنته التي أبلغته قائلة: «يابا مافش إشي هون، وكلنا بخير».
مع ارتفاع وتيرة الاعتداءات على القطاع، ارتفعت وتيرة الاتصالات. هكذا، «عدّل» غزاويو لبنان من «أجندة» أولوياتهم. كان يكفيهم اتصال واحد في الشهر يجرونه مع أقاربهم هناك، لكن التطورات المتسارعة رفعت من حرارة الاتصالات للاطمئنان. أم محمود العلايلي باتت تجري اتصالين في الأسبوع الواحد بأشقائها في منطقة رفح داخل القطاع، قائلة: «نظراً إلى قلقي على أشقائي الخمسة وأولادهم، لم يعد الاتصال الشهري يكفيني، أتصل أكثر من مرة في الأسبوع، وحيث تدعو الحاجة». في آخر اتصال أجرته مع شقيقها أبو حسن، أخبرها أن الوضع متأزم في القطاع «لكننا غير خائفين من احتمال شنّ إسرائيل عدواناً على القطاع ككل». ورغم ذلك، طلب أبو حسن من شقيقته أن تكثر من الدعاء «بأن يحمينا الله من شرور إسرائيل»، التي قد تستفيد من أوضاع عربية مضطربة، والتهاء العالم بأخبار ليبيا والبحرين واليمن ومصر، لكي تنفذ على حين غرة عدواناً على قطاع غزة. تنقل أم محمود ذلك عن شقيقها الذي يعمل مدرساً في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ولم تره منذ عام 1989، لكنها تتواصل معه عبر الهاتف. تتنهد بعد أن تقول ذلك وتشرد قليلاً، ثم تقول كمن وجد فكرة: «أفكر جدياً في الذهاب إلى غزة للقاء أشقائي، ربما من طريق مصر، فقد تغيرت الأوضاع الآن هناك، وأصبح باستطاعتنا العبور». تبتهج لمجرد الفكرة، وتقول فجأة كمن أدرك أن حلمه قد يتحقق: «عندها، سأحدثكم مباشرة من غزة وسأرسل لكم صوراً للقائي بهم»، تقول تلك العبارة وتبتسم كمن اكتمل نهاره بالرضى.
«صامدون هنا، ولن ترهبنا إسرائيل» ينقل متصلون عن أقاربهم «هناك»، مؤكدين أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وحتى النفسية لا تشبه تلك التي كانت قائمة قبل مدة؛ فقد باتت أفضل بكثير، «في عندنا مواد غذائية كتير وأدوية متوافرة أيضاً، ولا داعي للقلق»، هكذا أبلغ غزاوي في القطاع شقيقته التي تسكن في منطقة وادي الزينة شمالي صيدا. تحسن شروط مواجهة أبناء القطاع لاحتمال عدوان إسرائيلي جديد على غزة مرده، كما ينقل متصلون بأقاربهم، إلى الأوضاع الناشئة راهناً في مصر. شاكر عوض غزاوي يعيش في صيدا «شاطرنا» الاستماع إلى مكالمته الهاتفية بشقيقه محمد في منطقة خان يونس عن آخر التطورات. معنويات الشقيق كانت عالية، وهو جزم بأن إسرائيل لن تقدم على أي عدوان جديد؛ لأن فرص مواجهته في الوقت الراهن أعلى بكثير من السابق. وعندما سألناه عن سبب إسرافه بتفاؤله هذا، يجيبنا بمنطق المحلل السياسي: «الأوضاع مختلفة، مصر مع سقوط حسني مبارك ما عادت تطعننا في ظهرنا، لا بل إن مبارك الذي فرض حصاراً غير إنساني ولا أخلاقي علينا، مانعاً شربة الماء والحليب ومعالجة الجرحى سقط، واستعدنا عمقنا المصري، وحدودنا مع مصر مفتوحة»، ينهي محمد الذي غادر لبنان إلى غزة بعد اتفاقات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير مكالمته مع «الأخبار» بدعوتنا إلى زيارة القطاع «والله ليه ما بتشرفونا، الوضع منيح، بتيجوا عن طريق مصر».
«وتيرة الاتصالات مع غزة ارتفعت بنسبة عالية في الأسبوعين الأخيرين في عين الحلوة، وأيضاً في المية ومية، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية»، يخبرنا صاحب سنترال للاتصالات الدولية في مدينة صيدا، ويضيف أن مكالمات الفلسطينيين مع غزة عبر سنتراله «فاقت في أسبوع واحد مئة اتصال»، مع العلم بأن آخرين يفضلون إجراء اتصالاتهم من منازلهم.



«نحن بخير طمنونا عنكم»، عبارة ليست أُحادية الاتجاه من عين الحلوة باتجاه القطاع؛ فأبناء القطاع يتصلون أيضاً للاطمئنان على أحوال أهلهم في عين الحلوة، الذي شهد أخيراً حوادث أمنية عدة، ما دفع بالعديد من أبناء القطاع إلى مهاتفة أقاربهم هنا، كما هي حال ابتسام ممدوح التي اتصلت من غزة بإخوتها في عين الحلوة، بعد سماعها من التلفزة أن قنابل وإطلاق نار جرى داخل أزقة المخيم. سألت شقيقها: «كيف الوضع؟ طمني. على الأقل هنا في غزة منعرف إنو إسرائيل عم تضربنا، بس بالمخيم مش معروف مين ضد مين، الله يعينكم».