صعدة | كل شيء في «مدينة السلام» يتآلف مع «أنصار الله» ـــــ الاسم الأحب إلى قلوب الحوثيين ـــــ الشعارات، صور السيد (عبد الملك الحوثي) وصور الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله. يتجول «المجاهدون» في شوارع صعدة، بنادق الكلاشنيكوف على أكتافهم، يتوقفون أمام حواجز الجيش اليمني ـــــ عدو السنوات الماضية ـــــ لإلقاء التحية ويكملون طريقهم بين شوارع مدينة غادروها مكرهين في بداية الحملة العسكرية الأولى عام 2004.على جدران المنازل المدمرة والمساجد والمحال التجارية تظهر كلمات «شعار المواجهة»، الذي دفع الحوثيون ثمنه غالياً «الله أكبر، الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام»، أحرف الشعار تبدو جديدة العهد لم تترك الأيام آثارها عليها فتمحو حرفاً أو تزيل كلمة، يبدو ثوار الحدود اليمنية السعودية في محيطهم الطبيعي بين أبناء المدينة، يرتدون اللباس اليمني التقليدي وتتعرف إليهم من التصاق السلاح بهم. يركض طفل باتجاه أحدهم في أحد أحياء صعدة القديمة، يصرخ بأنه سينضم «إلى المجاهدين لمحاربة العسكر، الجيش حرق بيتنا». بصمات الحروب الست في صعدة تبدو بوضوح على منازل المدينة القديمة.
في سيارة دفع رباعية يشق الثوار طريقهم في أحد التلال المطلة على منطقة جرف الهوى المجاورة لمدينة صعدة، يظهر الموقع حجم الدمار الذي لحق بمناطق الصراع. يشرح المسؤول في المكتب الإعلامي والسياسي للحوثيين، ضيف الله الشامي، ظروف القتال في التلال المجاورة للمدينة، وحصار الثوار من دون ماء وطعام حتى إنهاكهم، إلا أن «المجاهدين تمكنوا من جر الجيش اليمني إلى ضحيان (أحد أهم معاقل الثوار القريبة من مدينة صعدة) وأطبقوا عليه الحصار». تمكن الحوثيون من الصمود سبع سنوات، وخلال ست حروب كانت آخرها عام 2009 ـــــ 2010 حين دخلت المملكة العربية السعودية على خط المواجهة مباشرة، فعبرت آلياتها الحدود اليمنية مدعومة بغطاء جوي حوّل مناطق محافظة صعدة إلى أشلاء مدن. يومها رد أتباع السيد عبد الملك الحوثي باجتياح القرى السعودية الحدودية. أكثر من خمس وسبعين قرية حكمها الحوثيون لثلاثة أشهر، جربت خلالها المملكة ـــــ بحسب الشامي ـــــ كل أنواع «التهديد والوعيد، حتى وصلت إلى حد عرض المال علينا حتى ننسحب».
ثلاثة أيام في خندق ثوار صعدة، كشفت النقاب عن مجموعة شديدة الالتزام دينياً. يقولون عن أنفسهم إنهم شيعة زيديون، نسبة إلى الإمام الخامس زيد بن زين العابدين. يؤمن الزيديون بالإمامة، لكنهم يضعون ستة عشر شرطاً ليكون العالِم إماماً، وبناءً على ذلك، اليوم لا إمام لهم. يرون في السيد حسين بدر الدين الحوثي، وبعده السيد عبد الملك الحوثي، سيدين من أهل البيت و«هاديَين» على درب الإسلام عملاً بالآية الكريمة «أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده».
أطلق عليهم لقب الحوثيين بعد عام 2004، لكنهم يفضلون تسمية أنفسهم «المجاهدين» أو «أنصار الله». فُقد سيدهم الأول حسين الحوثي خلال الحرب الأولى عليهم. ويخبر أحد المجاهدين المشاركين في القتال أنه «خلال الحصار في كهف سلمان في منطقة مرّان القريبة من الحدود السعودية، استعمل الجيش الغازات وأحرق الجرف، حيث تحصن المقاتلون وسيدهم وبعض العائلات. فُجِّر بالألغام على رؤوس العائلات والمقاتلين فيه». بعد نفاد الذخيرة خرج من بقي حياً من الجرف، وبينهم السيد حسين، حيث كان الجيش اليمني يطوق المنطقة، «توجه العسكر بالشتائم والسباب إلينا وأُطلقت النار باتجاه الأسرى ونقل الجميع في الطائرات. لم يكن السيد معنا في الطائرة». لم يعرف مصير السيد حسين الحوثي، يرفض الشامي الرواية الرسمية للسلطات اليمنية التي عرضت في اليوم التالي لاعتقال المجاهدين صوراً قالت إنها «لجثة السيد تُخرج من الجرف»؛ لأن الشاهد الذي خرج من الأسر لاحقاً أكد أن السيد «كان لا يزال حياً وخرج سيراً على قدميه مع الباقين». تدريجاً بدأت إدارة أمور الحوثيين تنتقل إلى شقيقه عبد الملك الشاب ذي الثانية والثلاثين اليوم.
قد يكون الزيديون الحوثيون من أكثر الفرق التي تنتسب إلى الشيعية تزمتاً. نساؤهم يرتدين الخمار ولا يشاركن في التظاهرات أو يخرجن وحدهن من المنازل. تتزوج الواحدة منهن في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. تتحدث زينب (17 عاماً) بصراحة عن تقبلها لغياب زوجها أياماً وأسابيع عن المنزل بسبب «عمله الجهادي». تجلس إلى جانبها شابة تبدو من السن نفسه تعرفها بأنها «أختي من أبي»، تضحك وهي تتحدث عن زواج والدها من ثلاث نساء. تتقبل النساء في صعدة تعدد الزوجات ويدافعن عنه «من يتزوج أرامل الشهداء ويهتم بعائلاتهم؟»، تسأل روى الشابة العشرينية، من أقارب السيد الحوثي، الأم لثلاثة صبية.
تعيش العائلة الممتدة في منزل واحد، الزوج والزوجات، الأبناء، البنات، وزوجات الأبناء، إضافة إلى الاطفال. ترتدي النساء الحجاب داخل المنزل وحتى مع غياب الرجال. ويبدأن بارتداء الخمار منذ سن العاشرة «وحتى قبل التكليف، فقد يحفظون شكلها في عمر العاشرة». لا تُستفز النساء عند سؤالهن عن دورهن في المجتمع خارج الزواج والإنجاب. برضى تام من دون تسجيل أي استثناء، يتكلمن باقتناع على دور المجاهدين، «واستهدافنا من أميركا وإسرائيل والوهابية، علينا أن ننجب الكثير حتى عندما يستشهد عدد منهم يبقى للعائلة أثر».
في الجانب الآخر من جدار الغرفة حيث تجلس النساء والصبية قبل سن التكليف، يجلس الرجال في غرفة الضيافة، حول أكياس قات «لا يحرمها الدين» كما يجمعون، بعد جلسة التخزين اليومية (التخزين عادة يمنية تقضي بأن تُخزَّن نبتة القات داخل الفم في عملية مضغ متواصلة وامتصاص خواص القات. وقد تستمر جلسة التخزين لساعات)، بعدها يعود الحوثيون إلى إكمال جولتهم ومهمتهم اليومية.
تنطلق ثلاث سيارات دفع رباعية من دون لوحات تسجيل، محملة بالمقاتلين من أحد المقار. يتجه الوفد نحو الحدود السعودية اليمنية مروراً بمرّان، مقر إقامة عائلة السيد حسين الحوثي. في جبال وعرة وطرقات غير أسفلتية أحياناً، تشق السيارات طريقها إلى المنزل المدمر، المحطة الأكيدة لكل المجاهدين. أمام الركام ينتظر شاب في الثلاثينيات أمام سيارة دفع رباعي تحمل لوحة سعودية، من غنائم الحرب السعودية، عبد الله حسين الحوثي هو الرجل الذي سيكون الدليل في الجولة الحدودية. رغم وجود قوات الجيش والأمن المركزي في محافظة صعدة بأسلحتها وفي مقارهم ومع صور الرئيس اليمني أيضاً، إلا أنه يبدو أنهم في حماية الحوثيين.
ينتشر أنصار الله على طول الطريق بين مدينة صعدة والحدود السعودية، يسيطرون على كامل الحدود في هذه المنطقة وينتشرون في الجبال المجاورة، تبدو الحواجز الأمنية (للحوثيين) أكثر حذراً كلما اقتربنا من الحدود تحديداً في منطقة تهامة، التي تمتد إلى داخل الأراضي السعودية. يشير سائق إحدى السيارات، وهو مقاتل قاد إحدى الفرق التي دخلت إلى المملكة عام 2009، إلى اكتشاف الحوثيين في أحد المقار الرسمية اليمنية التي اقتحموها عشرات مولدات الكهرباء، التي قدمت مساعدات للقرى، لكنها لم توزع عليهم فقدموها هم لهذه المناطق التي أصبحت تتمتع «بنعمة الكهرباء».
يتوقف الوفد أمام هياكل منازل، يشرح عبد الله، قائد المجموعة القتالية، قائلاً إن «هذه المنطقة كانت تحت السيادة السعودية بموجب اتفاقيات مع الدولة اليمنية». يشير بيده إلى مبنى مهدم، «هنا كانت مدرسة سعودية قصفتها الطائرات الحربية السعودية، خوفاً من أن يكون المجاهدون قد تحصنوا في داخلها». يشرح عبد الله من منطقة قريبة من الحدود كيف «أعطى السيد الأمر بدخول الأراضي السعودية، لأنها تمادت في ظلمها مع علي عبد الله صالح وعلي محسن». يبدو المقاتل الشاب أقل دبلوماسية من المتحدثين الرسميين للحوثيين، فيكرر اسم علي محسن الأحمر مسؤولاً عن دماء الحوثيين.
في التلة المقابلة تبدو تحركات متسارعة لجنود الجيش السعودي؛ فقد اقترب الوفد أكثر من المعتاد، حتى بدا العلم السعودي واضحاً في المقلب الآخر، «على السعوديين أن يدركوا أننا لن نهاجمهم، لكننا سندافع عن أنفسنا إذا فكروا بالاعتداء علينا»، يؤكد عبد الله وهو يكمل الشرح عن أحداث المعركة التي جرت براً مع السعوديين في أواخر عام 2009 وبداية عام 2010 «بأسلحة بسيطة، ولكن بإيمان مطلق واجهناهم وانتصرنا». ينفي تهمة التمويل الإيراني أو تلقي التدريب من حزب الله «هم يتحكمون بالمنافذ البحرية والجوية والبرية في هذه المنطقة، من أين سنحصل على الإمدادات إذا أردنا، نحن أخفناهم لأننا تمكنا من تصنيع صواريخ محلية ضربنا بها مراكزهم داخل الأراضي السعودية». ويردف مبتسماً: «نحن رددنا هديتهم إلى الشعب اليمني، غنمنا آلياتهم وعتادهم وذخيرتهم وأرجعناها لهم مع الشكر».
لكن، كما كل حوثي مقاتل أو مدني أو طفل أو امرأة، تلمع عيناه وهو يتحدث عن الأمين العام لحزب الله «السيد حسن يقاتل اليهود وأميركا، كيف لا نحبه؟ لكن الرابط بيننا روحي فقط».
تتحرك السيارات بسرعة عند غياب الشمس للعودة إلى المواقع غير المكشوفة أمام مرمى السعوديين، تسير السيارات بين الأشجار الكثيفة بسرعة قصوى وتتجنب الطريق العادية، يهبط الضباب على هذه المناطق كثيفاً بعد الغروب، يعود المقاتلون إلى مواقعهم.
يدركون أن ثورتهم انتصرت يوم بدأت المحافظات الأخرى تنادي بما يطالبون به منذ سنوات، يفرضون هيبتهم وحضورهم على محافظة يبدو أن السلام قرر أن يحل عليها في زمن الحروب. يرتشفون النصر في ممارسة مسؤولياتهم. ويعلن المسؤول الإعلامي والسياسي أن «الشباب صادروا كميات من الحشيش واعتقلوا المهربين وأُحرق الحشيش خلال مسيرة الاثنين في صعدة وعرض المجرمون أمام الناس».
على الرغم من ذلك، لا يُسكر النصر هؤلاء الرجال الأشداء، يمارسون السلطة بحذر، يتظاهرون سلمياً في العاصمة صنعاء. أما في صعدة، فتبقى أيديهم دوماً على الزناد، متربصين بأعداء الأمس، والعيون ترصد الحدود.