المخيم، الشرس العنيد، المحارب السابق، الشهيد اللاحق، الطالب والعامل والعاطل، العصبي حيناً و العفويّ حيناً آخر. المخيم بقعة الجغرافيا المتمردة دوماً على التاريخ، ميدان للذوات فيه تتمرن على حياة مؤجلة بسبب إحكام الواقع قبضته عليها. بحياد ينظر إلى انتصاراتها وهزائمها فلا يتدخل إلا إذا بالغت ذات «منتصرة» في «انتصارها» وليذكر «المهزومة» بصفة المؤقت وبأن المنفى ما هو إلا معركة «الطبيعي الدائم» ضد تفشّي «المؤقت». في السرّ، يبكي المخيم ما يحزنه في العلن ويكتمه، كأن يمر عليه نهار يمر فيه «القائد» مصادفة في أزقّته ويدلي بتصريح ينتقد فيه «كشّ الحمام»، مثلاً، فيسجّل صحافيّوه ما ورد في تصريحه ويترجمون فورياً للصحافي الأشقر المبتسم دائماً!. يطيّر المخيم حماماً رفوفاً رفوفاً، رفيف الأجنحة موسيقى تصويرية لمشهد النفي الجامد، أسراب تخترق المدى الواسع فوق الأزقّة الضيّقة، ينثر المخيم شيئاً منه في السماء لتهدل رسائل المنفيين حين تعلو فوق ضجيج المدينة إلى الهدوء الأزرق. «تطيير الحمام» هواية المنفى، ففي مران المضارع المؤقت وارتفاع جدران «العادي»، لا عبث في الطيران الحر يشغل فيه أحدهم نفسه عن متابعة «الفلسفة الزقاقية». يسدل المخيم رداء العتمة والصمت على غرف ساهرة تلمّ بضعة منفيين، لا ينوي حبسها بل حجبها عن أعين العسس ورجال الأمن. له أبناء لا يقدرون على فراقه، ولا يقدر. فراخ رعاهم قبل أن يكسوهم الريش. «زواجل» كم ابتسم فرحاً وهو يرقبها تتمعن على الهواء الملوّث كلما اشتدت جوانحها، ويغمز لها مشجعاً، بالطيران تشفى سريعاً من أعراض التعثر في الرفيف واكتئاب سبّبه صمت وشّحه رداء العتمة. «إن الزهرة غائبة عن كل الباقات»، يقول مالارمييه. «ياسر» زاجل المخيم الأثير، لم يطر في سرب يوماً، خصّه المخيم ببضع ساعات يطير خلالها منفرداً، فحين تطير الأسراب يحط هو على كتف المخيم ليدون له أداء الأسراب في الطيران وفنونه، يرقب الرفوف تحوم وتحوم ثم تعود إلى مهابطها.
لا يقمع المخيم تذمّر الزاجل من ضيق المدى على استطاعة جناحيه، أو تأففه من الطيور الضعيفة تعود من وجهاتها البعيدة وقد تقمّصت نوايا النسور!! ومكافأةً له على اعتداده بذاته يزيد له المخيم وقت الطيران المخصص، خلاله يحلم بالانقضاض على المدى ومنازلة نسوره الحقيقية.
في رحلة الارتفاع نحو نهاية اللازوردي يهدل بالرسالة غاضباً، ولا ينسى أن يردّد تعويذة اسمه الفضلى: «ياسر، وبقلب الأحرف أسير. أسير الاسم.. أسير جناحيّ الصغيرين. أسير نوعي: زاجل/ فدائي. لا أخاف النسور و أنا أطير برسالة المخيم إلى ما بعد الجغرافيا. أسير المخيم عن قصد ودراية، وغريزة! كلما ابتعدت، وازدادت الوجهات تذكرت كتف المخيم، فيأسرني الحنين».