أنقرة، إسطنبول | عبد الرحمن نائب حالي في البرلمان التركي. هو من دياربكر، عاصمة الأكراد في العالم، أي من مدينة عبد الله، النادل في أحد مقاهي إسطنبول القديمة. عبد الرحمن «قَبَر الفقر» لا شك منذ أصبح نائباً قوياً عن حزب العدالة والتنمية الحاكم. لديه مرافقون وسائق وراتب جيّد. أكيد لم يكن عبد الرحمن يحلم بأن يصبح على ما هو عليه اليوم. فهو كردي ومن دياربكر، بالتالي أغلب الظن أنه في شبابه كان يتوقع إما أن يكون مصيره عاملاً في مهنة لا تتطلب مؤهلات علمية، أو مقتولاً أو مسجوناً في أي مكان إن سُمع يتحدّث بلغته الكردية في الشارع. باختصار، من المنطقي أنّ عبد الرحمن كان يشعر في مراهقته، بأنّ انتماءه لمجموعة كرديّة يزيد عدد أعضائها على 40 مليوناً موزعين على أربع دول، أمر خطير بحدّ ذاته. لا شك في أنه كان يعرف قصة أحد أفراد عائلته ممّن تعرّض لما عاشه عبد الله. فالأخير كان يبلغ 13 عاماً فقط عندما كان يشارك في احتفال شعبي في مدينته وأدّى أغنية طفولية فيها تلميح «إلى المقاتلين في الجبال»، أي إلى حزب «العمال الكردستاني». ما إن عاد «الإرهابي الصغير» إلى منزل ذويه، حتى جاءته «الدولة» بعد منتصف الليل وأخذته إلى أحد مراكز الاعتقال حيث تعرض لكل صنوف التعذيب. بالتأكيد، عبد الرحمن يدرك ذلك كلّه، ويمكنه سرد عشرات الحالات المماثلة التي انتهت إلى أسوأ مما انتهت إليه قصة عبد الله. لكن على الحياة أن تستمر. ربما هكذا قال عبد الرحمن لنفسه عندما نزل إلى إسطنبول وتمكن من إتمام دراسته الجامعية فيها، حيث كان اللقاء مع رجال «العدالة والتنمية» اليوم، تلامذة نجم الدين أربكان في حينها.قال في قرارة نفسه إنّه لا بد للعنف أن ينتهي، ولا بد من العيش بسلام في كنف «الدولة». لكن كيف؟ العمل مع الحركة الكردية المكافحة أمر محفوف بالمخاطر: إما الموت في صفوف «العمال الكردستاني»، أو الاضطهاد طوال حياته في الحزب الكردي «الشرعي» الذي يُحظَر دورياً من طريق المحكمة الدستورية بسبب شبهة «مناصرة تنظيم إرهابي»، أي «العمّال الكردستاني».
عبد الرحمن اليوم في مطلع العقد الخامس. يكبر عبد الله بنحو 20 عاماً. لا شك في أنه يعرف أكثر منه عن القضية الكردية وتفاصيلها وتعقيداتها. عبد الرحمن متديِّن، بعكس عبد الله، رغم ما يوحي به اسمه من تعبُّد كبير. كلاهما يعرفان أنّ أكبر محاولات نزع الشرعية عن «العمال الكردستاني» من «الدولة»، «الدولة العميقة» في السابق، وحكومة «العدالة والتنمية» منذ 2002، عبّرت عنها مساعي اللعب على الوتر الديني عند أكراد تركيا، بتذكيرهم أنّ حزب عبد الله أوجلان مُلحد وكافر، بما أن جذوره ماركسية شيوعية. يتفق عبد الرحمن وعبد الله على أمر واحد على الأقل؛ العمال الكردستاني هو مَن بادر بمهاجمة «حزب الله التركي» (الكردي)، ذاك الحزب التكفيري الذي نال مساعدة «الدولة العميقة» وتسليحها وتمويلها في ثمانينيات القرن الماضي لمحاربة رجال أوجلان. وإن كان عبد الله يفتخر بأن «الكردستاني» هو من بدأ الحرب على حزب الله التركي، الموصوف بإجرامه وظلاميته ووحشية أساليب قتله وتعذيبه، فإنّ النائب عبد الرحمن يرى في هذه النقطة أمراً مؤسفاً، لأنه يظن أن الجرائم التي ارتكبها «حزب الله» لم تكن سوى رد وانتقام على الهجوم الأول.
تروي لعبد الله ما قاله عبد الرحمن في مقر البرلمان في أنقرة، فيضحك ساخراً، وكأنه يقول في قرارة نفسه إنّ هؤلاء الأكراد «الحكوميين»، «أكراد الدولة»، فقدوا الحياء، وخصوصاً عندما تصارحه بنظرية عبد الرحمن عن أن التأييد الذي لا يزال يناله «العمال الكردستاني» في جنوب وجنوب شرق الأناضول بين الملايين العشرين من الأكراد، يعود فقط إلى أن رجال «آبو» يمارسون الترهيب والتخويف والتهديد على مواطنيهم «بدليل الأكراد الستة الذين قتلهم «العمال» في استفتاء 12 أيلول الماضي في منطقة شيرناك لأنهم كانوا يودّون التوجه إلى صناديق الاقتراع لكسر قرار «الكردستاني» وقناعهم الشرعي (السلام والديموقراطية مع 20 نائباً) بمقاطعة التصويت».
على وقع الموسيقى الكردية في أحد مقاهي حيّ «تقسيم»، يصمت عبد الله للحظات باحثاً عن كلماته الإنكليزية علّها تقنعك بحقيقته. تصبح المصطلحات ثقيلة: «حسناً، أهل الجبال ودياربكر وفان وشيرناك وهاكاري... مُكرَهين على تأييد الكردستاني وحزب السلام والديموقراطية. لكن ماذا عنّا نحن الملايين الخمسة من أكراد إسطنبول؟ منّا من وُلد هنا وعائلته كلها تعيش هنا، ومنّا من يزور قريته مرة أو اثنتين في العام. هل يوجد حزب عمال كردستاني هنا في إسطنبول ليجبرنا على شيء؟». ويتابع: «لا بدّ أنّ السيد عبد الرحمن نسي أن علاقة حب تجمع الأكراد بقضيتهم. مهما يكن، فإنّ أصابع يدك ليست متشابهة، ومن الطبيعي أن يخرج من الشعب الكردي أمثال سعادة النائب وزملائه الـ74 نائباً كردياً المنتمين إلى حزب الحكومة». هكذا تكتشف أن الرقم الذي أعطاك إياه عبد الرحمن عن أن للحزب الحاكم 75 نائباً كردياً في مقابل 20 فقط لحزب السلام والديموقراطية المحسوب على «الكردستاني»، هو صحيح. لكن لكل سؤال جواب عند أمثال عبد الله المسيَّس حتى العظم: «ابحث عن القانون الذي يفرض على أي حزب نيل نسبة أكثر من 10 في المئة من أصوات الناخبين على الصعيد الوطني في الانتخابات، ليصبح لديه الحق بالتمثل كحزب في البرلمان ولينال اعتراف الدولة وتمويلها. حينها، سيصبح عدد ممثلي «السلام والديموقراطية» في البرلمان أكثر من 150 نائباً بدل 20 حالياً. أصلاً، مشكلة الـ10 في المئة في القانون معروفة. حتى رجب طيب أردوغان نفسه يعترف بأنها مكمن عطب في الديموقراطية التركية ويجب إلغاؤها».
في عينَي عبد الرحمن لمحات غضب كردي يستيقظ عندما تستفسره عن سبب عدم إنجاز حكومات «العدالة والتنمية» الكثير بما يتعلق بالقضية الكردية منذ 2002. يغضب لأنّه يعدّ نفسه «أم الصبي» وأهل القضية الكردية، ولأنّ «الطرف الآخر، (يقصد السلام والديموقراطية ومن خلفه العمال الكردستاني)، يعرف أننا أكثر مَن حقق إنجازات للقضية الكردية في التاريخ التركي، لكنه لا يعترف بفضلنا في شيء». وهنا يأتي دور تكرار الرواية الرسمية عن «الإنجازات»:
ــ أصبح السجال في هذه القضية مسموحاً بعدما كان ممنوعاً حتى استعمال كلمة «القضية الكردية». ــ أصبح لنا الحق بالتحدث بلغتنا في قرانا ومدننا. ــ أصبح للغة الكردية محطة تلفزيونية وإذاعة تبثّان على مدار الساعة بالكردية (TRT 6).
ــ توقفت حركة التنكيل بالأكراد لمجرد سماعهم يتحدثون بالكردية. ــ نعمل للبدء بتطبيق مشروع الغاب (تنمية مناطق الأكراد بـ 12 مليار دولار). ــ استحصلنا على حق إعادة الأسماء الكردية للقرى والشوارع والأنهار والجبال الكردية التي خضعت للتتريك في عهد مصطفى كمال وخلفائه...
تؤدّي دور محامي الشيطان وتستجوب عبد الله عن هذه الإنجازات. يعترف بأن الوضع الحالي تحسّن، لكن ليس بفضل «كرم أخلاق» الحكومة وحزبها، بل لأنّ خسارات «الدولة» في حربها مع «العمّال الكردستاني» أجبرتها على إعطائنا مكاسب. حصل ذلك بواسطة السلاح الذي لن يُسلَّم لأنّ الموضوع يبقى واحداً: صحيح أنّ قضيتنا ثقافية واجتماعية واقتصادية، لكنها أولاً وأخيراً سياسية، وكل ما هو دون السقف السياسي، أكان فدرالية أم كونفدرالية أم حكماً ذاتياً للأكراد، لا جدوى منه. أضف أنّ مشروع «الغاب» عمره عقود ولا يزال حبراً على ورق.
هنا تجد نفسك أمام فشل جديد في إيجاد نقطة تلاقي بين ابنَي دياربكر.
في أنقرة، تستعجل استفسار عبد الرحمن عن مصير «خطة الانفتاح الديموقراطي»، ذلك المشروع الذي وُلد قبل عامين وحُكي عنه الكثير على اعتبار أنه الحل السحري للأزمة الكردية، ورحّب به الأكراد في حينها، قبل أن يموت سريرياً في أدراج البرلمان من دون عرضه على تصويت الهيئة العامة. لكن عبد الرحمن سياسي محنَّك في النهاية. يجيب عن السؤال بسرعة البرق: نحن مَن قرّر عدم عرضه على التصويت لأنه لن ينال الغالبية الكافية من أصوات النواب الـ550، وحينها قد تنفجر الأوضاع. تسأل: «لكن النوّاب الـ336 لحزبكم وحدهم يمكنهم إنجاحه». وهنا يأتي الجواب الصريح والخطير: ومَن قال لك إنّ جميع نواب حزبنا مستعدون للتصويت لـ«خطة الانفتاح الديموقراطي؟». لا تفهَم. تستجمع ذاكرتك فتستعيد تلك الصورة التي أحرجت أردوغان في فترة الإعداد لتعديل الدستور في الصيف الماضي، عندما خذله نوّاب من حزبه وصوتوا ضدّ بضعة بنود من مشروع تعديل الدستور الذي قّدمه رئيس حزبهم وحكومتهم. كذلك تتذكّر سريعاً أن «العدالة والتنمية» ليس منزهاً أبداً عن النزعة القومية المتشدّدة، وخصوصاً في مسائل حسّاسة كالقضية الكردية، بذريعة أنّ الشعب التركي غير مستعد بعد لحلّ جريء.
عودة إلى غضب عبد الرحمن. تحاول استنطاقه عن سبب حياد «العدالة والتنمية» إزاء قرار حظر حزب الأكراد (المجتمع الديموقراطي) قبل نحو عام رغم تعاطف هذا الحزب في حينها مع الحزب الحاكم، الذي نجا من الحظر في 2008 من المحكمة الدستورية نفسها، ورئيسها «الصقر العلماني» نفسه عبد الرحمن يلشنقايا، فيقلب التهمة على حزب الأكراد الحالي «السلام والديموقراطية»: اسألهم أولاً لماذا يسعون إلى إبرام تحالف مع حزبَي المعارضة «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية» اليمينية المتطرفة.
تبدو علامات الصدمة بادية عليك: كيف للأكراد أن يتحالفوا مع حزب مصطفى كمال؟ بل كيف لهم وضع يدهم بيد أعدائهم العلنيين، من شوفينيي «الحركة القومية»؟ يعدك بأنه سيرسل لكَ الوثائق التي يملكها وتؤكد هذه المعلومة. تنتظر أياماً ولا يصلك شيء.
عبد الرحمن وعبد الله يعانيان مشكلة في التواصل الجغرافي مع مدينتهما دياربكر، ولكل منهما أسبابه. السبب عند عبد الله أنّ المال الذي جمعه طوال أشهر لزيارة الأهل، صرفه أخيراً على علاج والدته المريضة التي اضطر لإنزالها إلى إسطنبول لتلقي العلاج المفقود في دياربكر. أما عن غياب عبد الرحمن عن مدينته الأصلية، فيحاول أردوغان معالجته من خلال إصداره تعليمات لنواب حزبه، بعدما دخلت تركيا أجواء انتخابات 12 حزيران المقبل، تلزمهم بالحضور في محافظاتهم كل نهاية أسبوع. عبد الرحمن يحاول الالتزام قدر الإمكان بالأمر الحزبي، لكن الموضوع صعب على رجل باتت شرعيته تكمن في أنقرة أكثر من أي مكان آخر. «الدولة» بالنسبة إليه هي في أنقرة أكثر مما هي في دياربكر. هناك، أترابه وأبناء قومه ينظرون إلى «الدولة» على أنها أم المصائب. عبد الله مثلاً، لا يخفي انزعاجه من ذلك العلم التركي الموضوع على إحدى الشرفات المقابلة للمقهى الذي يعمل فيه أكثر من 10 ساعات يومياً: «الدولة تكرهنا». ينقطع كلامه فجأة وهو يردّ السلام بالتركية على رجل أمن خمسيني يزور المقهى بانتظام. رجل، علامات الأمن أكثر من ظاهرة عليه: جهاز لاسلكي عملاق لا يفارق يده اليمنى. يبتسم رجل الأمن لعبد الله ويتبادل معه أطراف الحديث ويمضي في سبيله. ما إن يبتعد خطوات عن طاولتك حتى يسخر عبد الله: «هل ترى هذا الرجل؟ كان يمكنه، قبل 10 سنوات مثلاً، أن يعتقلني فوراً وبلا مبرِّر سوى أنني كردي. اليوم يموت غيظاً لأنه لم يعد قادراً على فعل ذلك. نعم تغيّرت الأمور كثيراً. يعرفون أننا نحارب بقلوبنا على الأقل، لذلك يهابوننا، ولذلك بات وجود ذوي الشاربين الطويلَين، رمز القوميّين المتعصِّبين، نادراً في شوارع أنقرة وإسطنبول».
ينتهي الحديث مع عبد الرحمن على طاولة عشاء فخم في مطعم البرلمان التركي في أنقرة. يرتشف آخر كاسة شاي. يتأكد من وضعية ربطة عنقه الأنيقة. ينادي سائقه ومرافقه الشخصي ويجري اتصالاً عاجلاً مع فريق عمل رئيس الحكومة. يتبادل معك بطاقة عمله وعناوينه الإلكترونية وأرقام هواتفه الكثيرة ويذهب كل في دربه.
أما في إسطنبول، فـ«السهرة السياسية» تنتهي مع عبد الله في أحد المقاهي الإسطنبولية الكردية على كوب بيرة تركية. تشعر بثقل وطول الحديث السياسي فتحاول التسلُّل إلى حياته الشخصية لتكسر رتابة السياسة وثقل حكايات القتل والتعذيب و«الدولة». تستفسر منه عن أحواله مع الفتيات، فتبتسم عيناه حزناً وهو يخبرك أنه بات وحيداً منذ 6 أشهر. كسرَت صديقته الألمانية قلبه وهجرته. بقيا معاً لفترة طويلة حاول خلالها تعلُّم ما تيسّر من لغة ألمانية، فلم يستطع إلا حفظ بضع كلمات فيها حبّ من لغتها: أحبّكِ، أحبّ كردستان، أحب أوجلان، أحبّ الحياة... وأريد العيش بحرية وسلام.



«الكردستاني» والدولة العميقة

كُثر من أكراد إسطنبول مسيَّسون، وما إن تنال ثقتهم، حتى يصبحوا قادرين على مصارحتك بأنّهم مؤيِّدون حتى النهاية لحزب العمال الكردستاني. هؤلاء حالهم كحال عبد الله. لا ينكرون وجود تجاوزات في سلوك «الكردستاني». تجاوزات يرى النائب عبد الرحمن أنها القاعدة، بينما يصرّ أصدقاء عبد الله على أنها استثناءات وشواذات قليلة. يفاجئك هؤلاء الشباب الأكراد بأنهم على علم كامل بارتباط «الكردستاني» في فترات معينة بأجهزة الدولة العميقة، وخصوصاً بعصابات «إرغينيكون»، من خلال عصابات كردية صلتها أكثر من وثيقة بـ«الكردستاني»، يقودها الملياردير الكردي الذي كان يعيش في بريطانيا، عبد الله بايباشن، وهو تاجر مخدرات كبير، بات في السجن اليوم، «لكن له أفضال كبيرة على القضية الكردية، وخصوصاً بعد ما فعله في أوروبا من تمويل لحزب أوجلان»، وعلى صعيد تمويل الوسائل الإعلامية التي تنطق باسمه في أوروبا، من تلفزيون «روغ» إلى عدد كبير من الإذاعات والصحف التي تتبنّى «قضية الشعب الكردي».