فشل الجولة الحالية من محادثات جنيف ليس مفاجئاً، شأنه في ذلك شأن مصير «الهدنة» التي باتت على أرض الواقع جزءاً من الماضي. ويبدو جليّاً أن الوصول إلى بدايات فعليّة للحل يستدعي أن يكون عدد اللاعبين الراغبين في انتهاء الحرب أكبر من نظرائهم الراغبين في استمرارها (داخليّاً وخارجيّاً)، وهو ما لم يتحقّق في الملف السوري بعد. وبفرض وجود توافق حقيقي بين القطبين الأبرز (روسيا والولايات المتّحدة) على وضع حد للحرب المستعرة في البلاد، فإنّ مراحل نشوء «المسألة السورية» وتطورها ألحقت بالملف جملة تعقيداتٍ تجعل فُرص إقفاله اعتماداً على توافقٍ ثنائيّ (فقط) ضرباً من الأوهام. وبعيداً عن تقاذف التهم حول المسؤولية عن انهيار «اتفاق وقف الأعمال القتالية» أو تقويض جولة جنيف الأخيرة يمكن القول إنّ معظم الأطراف المعنيّة بالحرب تعي هذه المسلّمات وتحاول نصب «فخاخ» لبقية الأطراف بغية تجيير أي مستجدّ لمصلحتها. ويبدو أنّ «الالتزام» الذي قوبل به «اتفاق وقف الأعمال القتاليّة» قد استكمل أهدافه لدى بعض (إن لم نقل معظم) اللاعبين قبل انطلاق جولة جنيف الأخيرة. ترجمة «فخ الهدنة» ستُصرف في الميدان مزيداً من التصعيد بطبيعة الحال، أمّا تأخير دق الأجراس إلى ما بعد اكتمال نصاب «جنيف» فيمكن ردّه إلى أسباب «إعلامية» بحتة. وفي ما بات مرجّحاً أنّ داعمي المجموعات المسلّحة قد أحسنوا تسخير مرحلة الهدنة لمصلحتهم، يبدو أنّ دمشق قد نجحت في جرّ المعارضة السياسية إلى المسارعة بـ«نعي الهدنة». وبدلاً من أن تكون المحادثات مناسبةً لمحاولة «لجم الميدان» تحوّلت إلى منصة لإعلان تسعيره. وخلال أيام قليلة تسابق أعضاء «هيئة الرياض» في إطلاق تصريحات تصعيديّة، بدءاً من دعوة «كبير المفاوضين» محمد مصطفى علوش إلى «إشعال الجبهات» وصولاً إلى نعي الهدنة على لسان «المنسق العام للهيئة» رياض حجاب وتأكيده أنّها «لم تعد قائمة». موسكو تلقّفت جنوح وفد «الرياض» إلى تعليق مشاركتها في محادثات جنيف واعتبرته دليلاً على «تغلّب المتطرّفين» في الوفد.
معسكر الجيش وحلفائه لم يكن بعيداً عن أجواء التصعيد
التصريحات الروسية جاءت على لسان المندوب لدى الأمم المتحدة أليكسي بورودافكين الذي قال لوكالة «تاس» الروسيّة إنّ «متطرّفي الوفد ما زالوا يعوّلون على استمرار النزاع الدموي». وبدا لافتاً تأكيد الدبلوماسي الروسي أنّ «المفاوضات ستستمر، فإلى جانب مجموعة الرياض هناك مجموعات القاهرة وموسكو وحميميم للمعارضة السورية»... وأن «هذه المجموعات على ما يبدو هي التي ستحدد الاتجاه العام للمفاوضات إضافة إلى وفد الحكومة السورية». وليس من الواضح بعد ما إذا كانت هذه التصريحات نوعاً من الضغوط على وفد الرياض، أم أنّها تعكس بالفعل مساعي روسيّة لنزع صفة الحصرية عن «الهيئة» ووفدها. أمّا على الأرض، فتفيد معلوماتٌ متقاطعةٌ حصلت عليها «الأخبار» بأنّ معظم المجموعات المسلّحة الفاعلة في الحرب كانت قد تلقّت «إخطاراً» قبل أسبوعين من انعقاد الجولة الأخيرة من المحادثات مفاده أنّ «انعقاد جنيف شرٌّ لا بدّ منه لكنّه لن يُحدث فرقاً... استعدوا للمعركة». ويشرح مصدر ميدانيّ «معارض» أنّ «شيئاً لم يتغيّر بالنسبة إلينا، لا قبل جنيف ولا بعده. لا صوت يعلو على صوت المعركة، ونحن ندرك ذلك تماماً». المصدر المرتبط بواحدة من أكبر المجموعات في الساحة السوريّة قال لـ«الأخبار» إنّ «ظروف المعارك قد تستدعي أحياناً الاستجابة لضغوط معيّنة ولعبة الحل السياسي ليست سوى جزء منها، لقد تكيّفنا تماماً مع هذه الحقيقة منذ أكثر من عام». يؤكد المصدر صحّة المعلومات حول «الإخطار» الذي تبلّغته المجموعات، لكنّه يقول إنّ «الأمر نابع من يقين الداعمين بعدم جديّة النظام وشركاه، لا في شأن الهدنة ولا في شأن المفاوضات». في الوقت نفسه يقرّ المصدر بأنّ مجموعته لا تقيمُ وزناً لكلا الأمرين (الهدنة وجنيف) لكنّ «الأمر مختلف فنحن أصحاب حق، عكس النظام». واستمرّت خلال الأيّام الماضية عمليات «إعادة التموضع» في صفوف المجموعات المسلّحة في ريفي حلب وإدلب («الأخبار»، العدد 2859). ودخل «الحزب الإسلامي التركستاني» على خط التمركز في ريف حلب الجنوبي، مع توارد أنباء عن استيطانه عدداً من القرى أقربها إلى حلب قرية البوابيّة (حوالى 30 كم في الريف الجنوبي الغربي). ورغم مشاركة «التركستاني» في معارك سابقة في حلب، غير أنّ الجديد هو نقل مقاتليه وعوائلهم إلى القرية في تكرار لما دأب عليه في ريفي إدلب واللاذقيّة. ويُنظر إلى مقاتلي «التركستاني» على أنّهم متخصصون في الأعمال الهجومية و«الانغماسيّة»، وقد دأبوا على تلقّي تدريبات مكثّفة بدعم تركي كامل وأدّوا دوراً مؤثراً في معارك «فتح إدلب». («الأخبار»، العدد 2593). وفي هذا السياق، تنبغي الإشارة إلى التصريحات التركيّة الأخيرة حول مسألة «إغلاق الحدود». وتعكس التصريحات التي جاءت على لسان رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو تحدياً لموسكو على وشك الخصوص. ورغم وجود قرارات دولية «تُلزم» أنقرة بـ«ضبط حدودها» لكنّ داود أوغلو أكّد أن «مسألة الحدود مع سوريا قضية تخص تركيا والكلمة الأخيرة بالنسبة لهذه المسألة لأنقرة». التصريحات التركيّة جاءت ردّاً على تناول الرئيسين الروسي والأميركي قضية الحدود خلال محادثة هاتفيّة مساء الاثنين، الأمر الذي أكّد أوغلو أنّه «ليس له معنى بالنسبة لتركيا. (...) نبقي أعيننا مفتوحة من أجل اللاجئين، والعالم يجب أن يشكرنا لا أن يحاسبنا». معسكر الجيش السوري وحلفائه بدوره لم يكن بعيداً عن أجواء التصعيد (لا قبل انعقاد جنيف ولا أثناءها)، بل واصلَ الحشد والاستعداد في الشمال تحديداً بانتظار اللحظة المناسبة لدق طبول معركة جديدة. مصدر عسكري سوري يعزو الأمر إلى «سلوك المجموعات الإرهابيّة. لم يعد الأمر يتعلّق بخرق هنا وآخر هناك، ولم تعد تنفع الحلول الموضعيّة». يؤكّد المصدر لـ«الأخبار» أنّ «النسبة العظمى من المجموعات المسلّحة ترضعُ من الثدي نفسه، لكنّهم يحاولون التمويه على ذلك. يهاجمون تحت ستار جبهة النصرة، وحين نردّ عليهم يرتدون ثوب الاعتدال المزيّف ويزعمون أنّنا نخرق الهدنة». يكرّر المصدر الحديث عن «قرار سعودي تركي بإنهاء الهدنة» ويؤكّد أنّه بدأ يتبلور «منذ نجاح الجيش في تحرير مدينة تدمر». في الوقت نفسه يؤكد المصدر أنّ «العلاج جاهز وسيكون ناجعاً، وحين تدقّ الساعة الصفر سيدركون أيّ محرقةٍ رموا أنفسهم فيها». لا تصريحات ولا تلميحات حول «الساعة الصفر»، فقط تشديد على أنّ «كلّ شيء جاهز في انتظار تعليمات القيادة وبالتنسيق مع كل الحلفاء».




موسكو وواشنطن «تبحثان وضع حلب»
أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو وواشنطن تبحثان من خلال قنوات خاصة الوضع حول مدينة حلب. ونقلت وسائل إعلام روسيّة عن نائب وزير الخارجية غينادي غاتيلوف قوله «من المهم أن تضبط كل الأطراف نفسها وتساعد على تعزيز نظام وقف إطلاق النار دون عواطف زائدة وتأجيج عواطف وتنبؤات بشأن انهيار كل شيء». الدبلوماسي الروسي حاول الابتعاد عن لغة التشاؤم حول «الهدنة» مؤكداً أنّ بلاده «لا ترى أنّ نظام الهدنة على وشك الانهيار (...) وقف إطلاق النار قائم عموماً رغم حدوث بعض الانتهاكات وهو أمر لا مفر عنه في الوضع الحالي».