عادت أبيي في الأيام القليلة الماضية إلى الواجهة. النزاع في المنطقة، الذي يعود بالدرجة الأولى إلى الخلاف على حقوق القبائل في الرعي والمياه، لم تزده السنوات إلّا تعقيداً. اشتد الخلاف عام ٢٠٠٨ وأُحرقت أجزاء واسعة من المدينة، فاختار شريكا الحكم اللجوء إلى التحكيم الدولي. صدر قرار لاهاي عام ٢٠٠٩ معيداً ترسيم خريطة المنطقة، ومقلّصاً مساحتها، لكنّ القرار لم يجد قبولاً من قبائل المسيرية مقابل ترحيب قبائل الدينكا نقوك به. أما عام 2010، فصدر قانون استفتاء أبيي مانحاً إياها الحق في تحديد مصيرها بين الانضمام إلى الجنوب الذي اختار الانفصال، أو البقاء ضمن الشمال الموحّد، لكنّ سكانها حرموا ممارسة هذا الحق بسبب الخلافات التي نشبت بين شريكي الحكم بشأن هوية من يحق له التصويت في الاستفتاء. أصر المؤتمر الوطني على حق قبائل المسيرية في المشاركة في الاستفتاء المصيري، فيما سعت الحركة الشعبية إلى تقليص مشاركتهم إلى الحدود الدنيا. ودخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم، والحركة الشعبية، ومعهما قبائل المسيرية والدينكا نقوك، في مفاوضات متواصلة، لم تكن الوساطات الإقليمية والدولية، بما في ذلك الأميركية، بعيدة عنها، لكن من دون جدوى. وبينما كان سكان الجنوب يصوّتون فرحاً للانفصال في التاسع من كانون الثاني، كانت الاشتباكات تندلع في المنطقة، منذرةً بأن النيران عادت للخروج من تحت الرماد. وحاولت السلطات إخمادها من خلال إجراء مصالحة بين القبيلتين أفضت إلى توقيع اتفاق «كادقلي»، الذي قضى بتبادل التعويضات وتحديد مسار رعي قبائل المسيرية، التي باتت تصف نفسها بأنها من «أيتام نيفاشا»، في إشارة إلى الغبن الذي لحق بها عقب توقيع اتفاقية السلام في 2005، إلا أنه لم يكد يمضي شهر ونيّف على توقيع الاتفاق، حتى استعرت النيران مجدّداً أواخر الشهر الماضي، وتُرجمت اشتباكات لا تزال مستمرة بشكل متقطع حتى اليوم، محولةً المنطقة إلى جحيم تتساقط فيه جثث الضحايا وتحترق فيه القرى، فيما لم يجد السكان الذين نجوا من القتال من مفر سوى ركوب موجة جديدة للهجرة.
تطورات فرضت نفسها على شريكي الحكم، اللذين يستعدان لفك الشراكة في التاسع من تموز المقبل، فكان لا بد من استعادة الخطاب القديم في ظل افتقارهما إلى أي حلول جذرية. وفيما اتُّهم الحزب الوطني الحاكم بالوقوف وراء تصاعد الأزمة في أبيي، في محاولة منه للتنصل من استحقاقات إتمام الانفصال، عزفت أطراف في المؤتمر الوطني الحاكم على وتر أن الحركة الشعبية تسعى إلى الحرب، هرباً من مشاكلها الداخلية.
وتنذر المناوشات القائمة بين قبائل المسيرية والدينكا نقوك، التي لا تخلو من مشاركة جيشي الشمال والجنوب في حال استمرارها، بتصعيد خطير لن يكون إتمام انفصال الجنوب بسلاسة في التاسع من تموز المقبل ببعيد عن تداعياته، ولا سيما في حال استمرار فشل الأطراف السياسية في التوصل إلى حل لكل المسائل الخلافية التي لا تزال عالقة من تقسيم عائدات النفط، والديون، وترسيم الحدود، وقضايا المياه.
في المقابل، يعوّل على عامل الوقت ليمثّل ضغطاً على الشريكين السياسيّين لاحتواء الوضع المتفجر؛ فمن جهة، تسعى الحركة الشعبية إلى إتمام الانفصال رسمياً في موعده المحدد، فيما تدرك حكومة الخرطوم أن الحوافز الأميركيّة التي وعدت بها، وفي مقدمتها رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مرتبطة ليس فقط باستحقاق تنظيم الاستفتاء، بل أيضاً بالوصول إلى إتمامه بطريقة سلسة.
ووسط هذه الأجواء، مضى يوم الاثنين ولم تتحقّق النبوءة التي روّجت لها الاستخبارات السودانية عن أن الحركة الشعبية تعتزم، بمساندة بعض قوى المعارضة في الشمال، تنفيذ مخطط تخريبي يستهدف العاصمة الخرطوم، في تكرار ممل لسيناريو الاتهامات التي ساقتها السلطات بحق زعيم المؤتمر الشعبي، حسن الترابي، عندما قررت اعتقاله في شهر كانون الثاني الماضي، في محاولة منها لشق صفوف المعارضة الشمالية التي تستعد لتسيير تظاهرة احتجاجية ضد النظام على مدى اليومين المقبلين.