الاسكندرية | المدينة، التي انطلقت منها شرارة 25 يناير بسبب استشهاد خالد سعيد، كانت لدى وصولنا صباح السبت الماضي غارقة في عاصفة من غبار. قال السائق إنها تباشير الربيع المصري. أيّ ربيع؟ نسأل ونحن في شهر شباط. «هو تقريباً أمشير» يقول السائق، مؤكداً بأدب، قاصداً الشهر الحالي بالتقويم القبطي. تفهم فجأة ما الذي يعنيه المصريون بتعبير «ما تطّلعش عليّ زعابيب أمشير». هذه هي إذاً «الزعابيب».وبرغم حال الطقس العاصف، كان من الممكن تمييز، على طول الكورنيش الأطول، ربما في المنطقة، مجموعات من الشبان والشابات، بدوا كما في رسم مائي مموّه بالضباب، عاكفين على طلاء أرصفة الكورنيش بالأسود والأبيض، فيما كانت أمواج «شط اسكندرية» العاتية تكاد تمحو بما ترميه على الكورنيش من ماء، ما أنجزه هؤلاء للتوّ.
ومشهد مباني اسكندرية الذي نراه في أفلام، يبدو اليوم أقرب الى الانهيار. مبانٍ تكاد «تنهار». واجهة كئيبة لما كانت يوماً أجمل مدن البحر المتوسط. يقول زميل إن هناك تواطؤاً بين «رؤساء الأحياء» وبعض المالكين على عدم الصيانة «لترك القديم يهر من أجل بناء عمارات جديدة وكبيرة».
الملوحة التي في الهواء تعيد إليك قليلاً من رائحة بيروت. لا تريد أن تتذكر. تريد الانتماء الى «هذا». في الفندق الذي يعود بناؤه الى فترة الملك فاروق ربما، تبادرك النادلة اللبنانية بالسؤال عن البلد. وسرعان ما تسألك: «ومن أيّ منطقة حضرتك»؟
مدير الفندق، المصري هذه المرة، يجلس بالمعطف البني. يكاد يبكي وهو يقول لك إن الثورة، التي يسمّيها الأحداث الأخيرة، ضربت موسمه السياحي. يقول لك إنك قد تكون الزبون الوحيد الآن. «أتوقع أن تعود الأمور الى ما كانت عليه خلال 3 شهور» يضيف بوجه كئيب بدا أنه يجتهد لئلا يبدو عليه الاشمئزاز. هشاشة الاقتصاد تهدد مكتسبات الثورة، إذا لم يتصرف المنتصرون بسرعة.
في المساء، اجتماع في ناد لبعض الناشطين الإسلاميين للاحتفال بترخيص الحزب المصري الأول بعد الثورة، حزب «الوسط» ذي المرجعية الإسلامية. جو من البهجة يخيم على الجميع. مزاح وشاي و«إخوة وأخوات». المصريون ظرفاء الى أي تيار انتموا. «كان موعد النطق بالحكم (لتأسيس الحزب) مأخوذاً قبل الثورة، في 19 فبراير»، يقول الأمين العام للحزب في الاسكندرية ممدوح علي. ويضيف «كنا يائسين تماماً من موافقة لجنة الأحزاب، لكن الثورة قامت وغيرت كل شيء».
وفعلاً، تغير كل شيء. فالتظاهرة التي خرجت هنا تضامناً مع الشعب الليبي ضد المجازر التي يرتكبها نظام القذافي بحق المتظاهرين السلميين، أثبتت أن مصر الوليدة، لا تنوي العودة إلى الوراء. ومع أن التظاهرة، التي دعت إليها رابطة الشباب الليبي في الاسكندرية، لم تضمّ إلا بضع مئات مشوا من أمام مسجد القائد إبراهيم حتى القنصلية الليبية بالقرب من استاد المدينة، إلا أن التظاهر لهذا النوع من القضايا تحديداً، كان يعدّ في ماضي مدينة سيد درويش القريب، «ظاهرة» بحد ذاتها، وتدخلاً في الشؤون الداخلية لبلد شقيق.
هكذا مزق المتظاهرون الكتاب الأخضر وأحرقوا صورة القذافي وداسوها بأرجلهم أمام سبع دبابات أحاطت بالقنصلية. الهتافات كانت جديدة بالجرأة أيضاً: «ثورة ثورة يا أحرار/ عيدوا أمجاد (عمر) المختار»، أو «يا قذافي يا خسيس دم الليبي مش رخيص».
هنا، الحدود الليبية المصرية توصف بـ«المرنة»، في إشارة الى سهولة العبور بين منطقتي مرسى مطروح والسلوم، والأراضي الليبية. هنا، لا تعترف العشائر الموزعة على جانبي الحدود، بهذه الأخيرة. كيف تعترف العائلة الواحدة بخط «وهمي» رسمه المستعمر القديم؟ عشائر أبناء علي والعوامي تتشابك بامتدادها على الجانبين.
كنيسة القدّيسين لا تزال تعرض ندوبها البشعة إثر التفجير الإجرامي الذي استهدفها قبل أسبوعين من الثورة المصرية. اليوم، الجميع يعلم أن من فعلها كان وزير الداخلية حبيب العادلي. هل فعلها أم أن كل الآثام تعلّق على «شماعة النظام»؟ سؤال بات يلحّ على الناشطين الذين يرون أن كثيراً من الشماعات في طريقها إلى الظهور لإبعاد الرأس عن مقصلة المحكمة.
اختفاء العنف الطائفي بعد الثورة يعزز نظرية ضلوع النظام في أحداث الفتنة. لكن مادلين، لا تزال خائفة. تسرّ إليك في بيتها الجميل القريب من ميدان كليوباترا، أنها «متوغوشة» من اللافتات التي رفعها السلفيون في المدينة، رافضين تعديل المادة الثانية من الدستور التي ابتدعها السادات مراضاة للإخوان المسلمين أيامها، أي أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، بعدما كانت أحد مصادر التشريع. تتذكر أحد الإسلاميين في الاجتماع الذي كان يضحك وهو يقول «إنهم (أي السلفيون) يرفضون تعديل ما هو غير مطروح أصلاً للتعديل»، في إشارة إلى أن البنود المقترحة على لجنة تعديل الدستور لا تشمل هذه المادة.
في منطقة الأنفوشي الشعبية على المرفأ، تصرّ النادلة شيماء حميدو على أن كل المشاهير المرسومين على حائط مطعم السمك «أنفوشيا»، أصلهم اسكندراني. تشير إلى كل واحد «شادي عبد السلام، بهيجة حافظ، الملكة فريدة، بيرم التونسي، توفيق الحكيم، هند رستم (المولودة في منطقة محرم)، و(جمال) عبد الناصر». لكن الرئيس عبد الناصر من الصعيد. تصحح لك بثقة «أبوه صعيدي وأمه من هنا من العصافرة». ريا وسكينة أيضاً من هنا، من منطقة اللبان في حي المنشية. تذكرك بأن بيتهما كان خلف «القسم تماماً». هل كانت الشرطة متواطئة من أيامها مع المجرمين؟
في مكتبة الاسكندريّة الرائعة الجمال، استهلّت الندوة التي نظّمها شباب الثورة، بالوقوف دقيقة صمت عن روح الشهداء. «ليس فقط شهداء 25 يناير، بل أيضاً تونس والجزائر وليبيا واليمن والبحرين»، يقول الناشط علي رجّال الذي أدار الحوار. القاعة ممتلئة عن بكرة أبيها. على المنصة ناشطون بفعالية في الثورة: ماهينور المصري، سعيد اسكندراني، محمد سمير، وعبد الرحمن محمود، يؤكدون في مستهل كلامهم «لا نمثّل الثورة. لا أحد يمثل الثورة». يبدو الموضوع حساساً. ربما كان ذلك أفضل. إشكالية التنسيق مطروحة: هل ننسّق في ما بيننا أم نعود لننعزل كل في مكانه؟ تقول ماهينور: «أنا اشتراكية ثورية». هذه العبارة تقال للمرة الأولى هنا في المكتبة التي ترعاها «سوزان مبارك». كما تقول إنها تؤمن بأن من يصنع نصف ثورة يحفر قبره بيده. تقول إن النظام لا يزال قائماً. ثم تعلق «لو علي (مدير الندوة) ما حصلوش حاجة بعد كل اللي قلناه هنا، تبقى دي ثورة بجد». يصفق لها الجمهور. تقول إن بوادر الثورة المضادة بدأت وإنها تختبئ تحت خطاب «برافو عليكو عملتو اللازم دلوقت روحوا بيوتكو». يصفق الناس «إحنا لسه في البداية، إنهم فقط يفتشون عن وجوه جديدة. السلطة التي أقنعتنا أنها بابا وماما وأنور وجدي».
عبد الرحيم محمود، وهو وكيل نيابة، يوافقها على أن الثورة لن تكتمل إلا بانهيار النظام «وقيام نظام بديل». لكنه يضيف «يجب أن نهزم البنى العقلية التي في نفوسنا. مبارك اللي جوانا، حبيب العادلي اللي جوانا. دول تلاتين سنة. النظام لا يزال يعمل من خلال إدراكنا. الناس لا يتخيلون نظاماً آخر من دون رئيس مثلاً، أو بدستور آخر».
يحتدم النقاش. المرحلة خطرة جداً. هم متفقون. أو تكتمل الثورة باستشعار القدرة على إبداع نظم جديدة، أو يعود النظام، ولكن على نحو أعنف «والأنكى من خلالنا نحن». ينتقلون الى النقد الذاتي. إيزيس تتكلم من بين الجمهور. تخاف من تقزيم الثورة الى ممثلين: «مين دول اللي بيطلعوا في التلفزيون؟ أصلاً مين القوات المسلحة؟ أنا ما عرفش إلا الراجل اللي بيطلع بالصورة. مين وراه؟»، تنفجر القاعة بالضحك. أحدهم يصيح ضاحكاً «الراجل اللي ورا عمر سليمان»، فتنفجر القاعة بالضحك. فلقد شغل «الراجل اللي ورا عمر سليمان» حين ألقى خطاب تنحي مبارك، الفايسبوك، ولحّنت له أغنية، ثم قام ابن الرجل الذي تبيّن أنه ملازم أركان حرب، بإنشاء صفحة تعرّف بوالده، وقد دخلها العديد ممن اشتركوا في النكتة العملاقة التي جمعت أكثر من 70 ألف شخص على الفايسبوك، واعتذروا منه. ثمة شائعة تقول إنه كان يشهر مسدسه ليجبر عمر سليمان على إلقاء خطاب تخلّي مبارك. تقول إيزيس «أنا قبطية يا جماعة، لكن الوقت مش مناسب لتعديل المادة الثانية من الدستور. لأنهم حيقلبوا الناس علينا». تنفجر القاعة تصفيقاً. لمَ لسنا كذلك؟ تقول لنفسك بحسد.
في الفندق الفخم العائد الى زمن مضى، تطلب أن يصلوك بالإنترنت. ما هي إلا دقائق حتى تنقطع الكهرباء. تتخيل مصير ثورة «الفايسبوك» لو كان التيار مقطوعاً. الحمد لله لم تخطر الفكرة ببال حبيب العادلي.



أسماء الشهداء على الأحياء

أصدر رئيس الوزراء المصري أحمد شفيق، تعليمات للمحافظين بإطلاق أسماء «شهداء ثورة 25 يناير» الذين قتلوا أثناء الثورة الشعبية التي أطاحت الرئيس المصري حسني مبارك، على الشوارع التي كانوا يقطنون فيها، بعدما أعلنت الحكومة عزمها على تخصيص معاش استثنائي لأسر الشهداء بقيمة 1500 جنيه شهرياً.
ووفقاً لتقديرات وزارة الصحة المصرية، فإن عدد القتلى بلغ 365، من دون إحصاء من قتلوا من رجال الشرطة أو المساجين.
في غضون ذلك، أعلنت نقابة الأطباء المصريين أن لجنة الإغاثة الإنسانية في النقابة بدأت بصرف التعويضات العينية التي قررتها لأسر الشهداء بواقع 3000 جنيه لكل شهيد. وأكد الأمين العام للجنة الإغاثة الإنسانية، عبد القادر حجازي، أن أموال التبرعات التي تقدمها اللجنة هي من تبرعات المواطنين، وليست من ميزانية النقابة.
(يو بي آي، رويترز)