القاهرة ــ عندما شاهد أمس الأهالي صاحب مخبز في أحد الأحياء النائية في القاهرة يهرّب شحنة «الدقيق» المخصصة لمخبزه، أوقفوه، وقامت اللجان الشعبية بفتح المخبز وإنتاج الخبز.ربما كان هذا الموقف واحداً من المواقف التي أثبت فيها الشعب المصري قدرته على تجاوز المحنة. بل إن عدداً من المواطنين كانوا يلجأون إلى اللجان الشعبية للشكوى من انتهازية بعض التجار الذين رفعوا أسعار السلع بعدما فضل المواطنون شراء كميات كبيرة منها وتخزينها، بعد هروب رجال الشرطة، وإحساسهم بأن فترة الثورة ستطول.
لكن لم يشعر المصريون، على الأقل في القاهرة، بنقص لأي من السلع، إلا الخبز في اليوم الأول للتظاهرات، بعدما أغلقت المخابز، وخاصة تلك القريبة من ميدان التحرير. وكان المواطنون يضطرون إلى الاستيقاظ مبكراً للذهاب إلى الأفران والوقوف في طوابير طويلة للحصول على خمسة أرغفة، لكن كان البعض يستطيع تهريب الخبز وبيعه في السوق السوداء بأسعار أعلى من ثمنه الحقيقي. لم يكن الأمر مؤثراً، على اعتبار أن الشارع المصري شهد هذه الظاهرة كثيراً في السنوات الثلاث الأخيرة، آخرها أزمات القمح الروسي منذ أشهر.
في المقابل، دفع إعلان حظر التجوال الكثير من الشركات الأجنبية إلى إغلاق أبوابها، وخاصة تلك العاملة في مجال النفط، وهو ما أعطى إحساساً بوجود أزمة في الوقود، فتكدست السيارات في محطات الوقود المصرية فقط، محاولةً الحصول على نصيبها، ولا سيما أن المحطات وجدت نفسها مضطرة إلى إقفال أبوابها منذ الساعة الثالثة، موعد بدء سريان حظر التجوال.
وبعد أيام من تعطيل البنوك، اصطف عشرات المواطنين أمس أمام آلات الصراف الآلي في القاهرة بعد أن بدأت الأموال تنفد منهم، فيما أعلن وزير المال الجديد سمير رضوان، السماح لأصحاب معاشات التقاعد والموظفين بسحب ما يصل إلى ألف جنيه مصري (170.7 دولاراً) يومياً من معاشات التقاعد والرواتب للتغلب على نقص السيولة التي يعانونها.
أما المتظاهرون فلم يشعروا بالأزمة الاقتصادية. فمنذ اليوم الأول، تألفت لجان للإعاشة، جمعت مبالغ رمزية لشراء الطعام والأدوية. كذلك فإن المطاعم الاقتصادية مثل الكشري والفول والفلافل لم تغلق قط، فيما واصلت مقاهي وسط القاهرة فتح أبوابها.
وتشارك المحتجون الطعام القليل على نحو لم يكن موجوداً من قبل على الإطلاق، حتى السجائر كانوا يتقاسمونها بمحبة أدهشت كل من تصور أنانية الشباب المصري.
وبعض الناشطين السياسيين من رجال الأعمال أو الفنانين تبرعوا بشراء العصائر للمتظاهرين وتوزيعها. كذلك فإن الفنان عمرو واكد اشترى مئات من السندويشات للمتظاهرين، قبل أن يصادرها رجال الأمن في اليوم الأول حتى لا يحاول المتظاهرون المبيت في ميدان التحرير. وعندما أدرك الشباب هذه اللعبة، بدأوا في شراء السندويشات بكميات قليلة حتى لا تثير انتباه عناصر الأمن، قبل أن ينسحبوا مع تصاعد حدة الاحتجاجات.
وفي مقابل محاولة المصريين والمتظاهرين التغلب على الوضع المعيشي، كان الاقتصاد المصري يشهد تداعيات الأزمة السياسية.
وفيما أكدت التصريحات الرسمية أن قناة السويس، أحد مصادر الدخل الرئيسية لمصر، لم تتأثر بأي حال من الأحوال، فإن القطاع السياحي يمكن عدّه من أكثر المتضررين، بعدما ألغت العديد من الشركات حجوزاتها.
كذلك فقدت البورصة قيمة أسهمها منذ بداية «ثورة النيل»، ما أدى إلى خسارة ما يقرب من 90 مليار جنيه، نتيجة انخفاض القيمة السوقية للأسهم المصرية.
من جهته، أكد رجل الأعمال الشهير نجيب ساويرس أن مصر لا تستطيع تحمل الوضع الحالي لفترة طويلة جداً، مشيراً إلى أن «البلاد بلا وقود، بلا غذاء، بلا شركات، بلا اتصالات وبلا عمل»، ولا يمكن تحمل ذلك الوضع لفترة طويلة جداً، مشيراً إلى أن «الحل العقلاني للاضطرابات الحاصلة في البلاد هو إيجاد مخرج مشرف للرئيس مبارك الذي يحكم مصر منذ نحو ثلاثة عقود».
وقد حمّل عدد من الاقتصاديين الرئيس المصري المسؤولية عن الخسائر الاقتصادية المستمرة بسبب إصراره على البقاء في السلطة. وأكد أستاذ الاقتصاد في جامعة الأزهر، محمد عبد الحليم عمر، أن أرقام الخسائر من الصعب رصدها الآن، قبل أن يوضح أن معدل الخسائر الاقتصادية في مصر قبل التظاهرات أعلى بكثيرٍ من الأرقام التي سيرصدها خبراء الاقتصاد خلال مرحلة تظاهرات الغضب، بعكس ما يشيعه رجالات النظام الذين يسعون إلى تحميل المتظاهرين المسؤولية.
وشدَّد عمر على ضرورة محاكمة المسؤول عن الخسائر التي نالت من الاقتصاد المصري خلال المرحلة الماضية والحالية، مؤكداً أن البورصة خسرت نحو 21 في المئة من قيمتها خلال المرحلة الراهنة، وستزداد الخسائر خلال المرحلة المقبلة بمعدل يقارب 26 في المئة من قيمتها.
وفيما أكد أن الجنيه المصري خسر قرابة 7,1 في المئة من قيمته قبل جمعة الغضب، رأى البرلماني السابق تيمور عبد الغني أن جميع الخسائر التي نتجت خلال الأسبوع الجاري من تعطيل للبنوك، وتوقف القطارات، وشلِّ حركة المرور والسياحة لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الخسائر التي لحقت بالشعب المصري من خلال سياسات الحكومة طوال السنوات الثلاثين الماضية. وأشار إلى أنه إذا قمنا بعملية حسابية للخسائر التي لحقت بمصر بسبب تصدير الغاز للكيان الصهيوني، فلا يقدر بأي خسائر تُذْكَر حالياً، بالإضافة إلى أن الشركات الأجنبية التي تحوّل الأرباح إلى الخارج يستفيد منها رجال الأعمال، فيما يُحرم منها الشعب المصري.
وانعكس توتر الأوضاع في مصر على تصنيف المؤسسات المالية العالمية للاقتصاد. وخفضت «مؤسسة موديز إينفستر سرفيس» تقويمها لسلامة الديون المصرية من درجة «Ba 1» إلى درجة «Ba 2»، وخفضت كذلك موقفها بالنسبة إلى مستقبل الاقتصاد المصري من «مستقر إلى سلبي».
كذلك خفضت درجة السندات والودائع المصرفية المقومة بعملات أجنبية من «Ba 2» إلى «Ba 3»، وبررت «موديز» قرارها «بالزيادة الكبيرة والواضحة في المخاطر السياسية» في مصر، مؤكدةً قلقها من أن يؤدي الرد السياسي على الاضطرابات التي تشهدها مصر منذ أيام عدة إلى تدهور جديد في الحالة المالية العامة للبلاد «الضعيفة أصلاً».