مع فرار الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، ظهرت على سطح الحلبة السياسية التونسية فسيفساء من الأحزاء والهيئات، التي كان بعضها مقموعاً في العهد السابق، فيما البعض الآخر كان حاضراً بخجل عبر معارضة لم يكن صوتها ليصل في ظل سياسة القمع التي اعتمدها نظام زين العابدين بن علي.الساحة السياسية اليوم مقسومة بالدرجة الأولى إلى قسمين: الأول، ضد المشاركة في الحكومة ومع البدء بعملية تأسيسية شاملة تقلع ما تبقى من نظام بن علي، وبدء البناء على أسس جديدة، على أساس أن الثورة لا يمكن أن تقوم على «بقايا الديكتاتورية». لكن في المقلب الآخر هناك مجموعة أخرى من الأحزاب ترى أن ما حدث كان انتفاضة لا ثورة بما تحمله هذه الكلمة من معان، وبالتالي لا بد من عملية انتقالية سياسية تبدأ تمهيدياً بإزالة آثار الحكم السابق، حتى لو كان الأمر بمشاركة بعض رموزه.
جبهة «14 يناير»، وهو تاريخ هروب زين العابدين بن علي، تتصدر معسكر الرفض. معسكر يأتي في مقدمة رموزه زعيم حزب العمال الشيوعي المحظور في عهد النظام السابق، حمة الهمامي، الذي لديه الكثير ليقوله في ما يخص المرحلة الحالية التي تعيشها تونس، والتي يرى أنها لا تزال في مخاض عسير.
في لقاء مع «الأخبار»، يقول الهمامي إن «ما حصل إلى الآن هو ثورة، لكنها لم تستكمل مهماتها، فالشعب التونسي تمكّن من التخلّص من الديكتاتور، لكن الديكتاتورية لا تزال قائمة، بحزبها ورجالاتها ومؤسساتها، أي البرلمان الصوري ومجلس الاستشاريين الصوري، ودستورها وأجهزتها، وخصوصاً جهازها البوليسي». ويشير إلى أن «الحكومة الانتقالية، أو ما سمي الحكومة المؤقتة، هي في حقيقة الأمر تسعى إلى الحفاظ على هذا النظام مع شيء من التعديل أو الترميم، لذلك نرى أن الثورة لم تستكمل مهماتها، والشعب التونسي لا بد أن يبقى معبّأً ليس فقط لإطاحة الديكتاتور، بل أيضاً الديكتاتورية». ويؤكّد أن المرحلة الحالية هي «مرحلة حاسمة، فالثورة لم تنتصر، ولم تُطح الديكتاتورية نهائياً».
الهمامي ومعه جبهة «14 يناير»، التي تضم ثمانية تنظيمات يسارية وقومية هي إلى «العمال الشيوعي»: «رابطة اليسار العمالي» و«حركة الوحدويين الناصريين» و«حركة الوطنيين الديموقراطيين» و«الوطنيون الديموقراطيون» و«التيار البعثي» و«اليساريون المستقلون» و«حزب العمل الوطني الديموقراطي»، يرفعون مطالب واضحة. مطالب يلخصها الهمامي «بمواصلة التعبئة الشعبية لفرض حكومة مؤقتة من أعضاء لا علاقة لهم بالنظام السابق وبحزبه، وتكون نابعة ممّا نقترحه وهو مؤتمر وطني للأحزاب السياسية التي ساهمت في الثورة، ومنها النقابات والجمعيات الحقوقية والهيئات الثقافية، إضافة إلى القوى التي أفرزتها الثورة في مختلف المناطق والجمعيات الممثلة للتونسيين في المهجر التي ساهمت في النضال». ومن مهمات المؤتمر «تعيين حكومة مؤقتة تحظى بقبول الشعب وتتولى تصريف الشؤون اليومية وخلق مناخ من الحرية يضمن انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً جديداً يحدد مقومات الجمهورية الديموقراطية التي يرنو إليها الشعب التونسي». ويرى زعيم حزب العمال الشيوعي أن هذه المقترحات هي الكفيلة بإخراج البلاد من الاستبداد «لأن النظام السابق لا يزال قائماً بنسبة 96 في المئة». ويشير خصوصاً إلى الجهاز البوليسي، موضحاً أن «تونس كانت قائمة على الديكتاتورية البوليسية، والجهاز الذي يعد نحو 150 ألف عنصر، لا يزال ينشط».
ويدلّل همامي على ذلك بالإشارة إلى أنه لاحظ أن رئيس فرقة البوليس السياسي الذي كان يراقبه في عهد بن علي عاد إلى ممارسة مهماته بمراقبته. ويقول «وجدته بالقرب من منزلي هو ومجموعته وقد عادوا للمراقبة، وهذا ليس خاصاً بي، بل إن العديد من المناضلات والمناضلين استؤنفت مراقبتهم». ويضيف «حتى الآن لا تزال عمليات التعذيب قائمة، وحتى التعيينات الجديدة في سلك الأمن أجريت في السياق السابق نفسه، فالأسماء الجدد هم من المطلوب محاكمتهم من منظمات حقوقيّة لدورهم في جرائم التعذيب».
ويرفض همامي ما تتهمه به بعض الأحزاب بأنه يرفع سقف المطالب، ما قد يقود البلاد إلى حال من الفوضى. ويقول «قبل أن يسقط بن علي كنا قد طالبنا بإزاحته، وكان هذا السقف صدى لمطالب الشعب، وقيل لنا الشيء نفسه، أي أنكم تحلمون وأن بن علي لن يسقط وأنكم تريديون الفوضى، لكن بن علي سقط وها هم يكررون الاتهامات نفسها». ويضيف: إنهم اليوم يرفعون في وجهنا «فزاعات العسكر والإسلاميين والخارج». ويتابع «نحن فقط نعبّر عن رغبة الشعب الذي عاش أكثر من نصف قرن تحت الظلم، وهو اليوم يريد التغيير الحقيقي، لأننا قد نعود إلى ما كنا عليه عبر بقاء أجهزة النظام السابق ومؤسساته».
ويضرب همامي مثلاً على ذلك بالقول «إنهم يتحدثون اليوم عن انتخابات رئاسية في غضون ستة أشهر، لكن من قال إن الشعب التونسي يريد نظاماً رئاسياً؟». ويضيف أن «غالبية الأصوات التي نسمعها تطلب نظاماً برلمانياً لأننا عانينا من النظام الرئاسي». ويطرح تساؤلاً للإشارة إلى بقاء النظام السابق «من سيزكّي الإصلاحات القانونية التي يقولون إن لجاناً ألّفت للقيام بها؟»، ويجيب «برلمان بن علي ومجلس مستشاري بن علي». ويشير إلى أن هذا «سيعيدنا إلى اللعبة نفسها التي حصلت في عام 1987، حين أوجد بن علي تشريعات جديدة مستخدماً برلمان الحبيب بورقيبة. هم يريدون استخدام برلمان بن علي، ونحن نعلم أنه برلمان منصّب».
ويقرّ القيادي الشيوعي بأن «اللعبة لا تجري في تونس فقط، لأن هناك ارتباطاً بمصالح أميركا وفرنسا، وهم لا يريدون لهذا التغيير أن يتجاوز سقف نوع من التحرر السياسي لا أكثر ولا أقل، وذلك في حدود مقبولة خارجياً ومقبولة من البرجوازية المحلية، ومن دون تغيير في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية». ويؤكد أن «ثورة الشعب التونسي ليست فقط من أجل ديموقراطية سياسية، بل أيضاً من أجل ديموقراطية اجتماعية، وللتخلص من الطبقة الطفيلية التي كانت تساند الاستبداد وتنهب البلاد بتواطؤ مع الشركات والمؤسسات الأجنبية». ويشير إلى أن زيارة مستشار وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان جاءت في سياق ترتيب الأوضاع لتكون على هذا النحو. ويضيف أنه حتى من قالوا إنها «عناصر تكنوقراط في الحكومة الجديدة، هي عناصر لها ارتباط باليمين الفرنسي أو اليمين الأوروبي، وهي من أنصار النيوليبرالية المتوحشة، وأحدهم كان من الذين لعبوا دوراً في سياسة الخصخصة في فرنسا». ويخلص إلى القول إن «كل الذين جاؤوا بهم يتماشون مع الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لنظام بن علي التي يريدون الحفاظ عليها، مع إعطاء النظام السياسي نفحة ليبرالية لا أكثر ولا أقل».
كذلك يرفض همامي اتهامه بأنه يعمد إلى تصعيد معارضته لتأمين شعبية تتيح له الترشّح إلى الانتخابات الرئاسية في المرحلة المقبلة. ويؤكد أنه «ضد النظام الرئاسي ومن الداعين إلى نظام برلماني». كذلك يؤكد أنه «ضد انتخابات رئاسية في إطار النظام الحالي، وفي إطار مؤسسات حكم بن علي التي لا تزال قائمةط. ويشير إلى أنه في حال حصول انتخابات في الأوضاع المشابه للوضع الحالي، فإن حزبه سيقاطعها «لأنه لا يرضى بانتخابات تعيد إنتاج النظام السابق، وخصوصاً أن الحكومة الحالية تريد أن تبدأ بانتخابات رئاسية، ثم انتخابات برلمانية». ويرى أنهم بذلك «يريدون ضمان رئيس لتأكيد النظام الرئاسي، وبأقصى الأحوال سيخففون من صلاحياته». ويشير إلى أن قوى «14 يناير ضد الانتخابات الرئاسية، وتناضل لفرض مجلس تأسيسي يحدد النظام السياسي الذي يريده التونسيون».
لكن هل تبقى الجبهة خارج العملية السياسية إذا لم تنجح في فرض المجلس التأسيسي، وبالتالي جرت العملية الانتخابية مع تعديل في القوانين؟ يشير همامي إلى أنه في حال الوصول إلى مثل هذا الوضع، فإن الجبهة «ستناقش وتقرر، وسنتابع الذهنية العامة للشعب التونسي، لأن المقاطعة أو المشاركة هي مسألة نسبية مرتبطة بالظرف. وهمّنا العمل على ترسيخ ما فرضه الشعب التونسي من مكاسب».
وفي ما يتعلق بمشاريع حزب العمال الشيوعي، يشير همامي إلى أن الحزب «سيقدم في الأيام المقبلة مطلباً لتشريع الحزب، لأنه لا يزال محظوراً». ويضيف: إننا حزب «نحظى باحترام قطاعات واسعة». ويرى أنه ما دام للحزب شرعية مكتسبة فسيطلب ترخيصاً بغض النظر عن قانون الأحزاب القائم، الذي يراه سيئاً. ويؤكد أن الحزب «لن يقدّم تنازلات على مستوى الفكر والبرنامج».
ويشير إلى أن العمل قائم على جمع تيارات سياسية يسارية وقومية للتوافق على أرضية اجتماعية وديموقراطة ليس فيها فقط الجانب المتعلق بالحريات، بل أيضاً بعد اجتماعي يعكس تطلعات المجتمع التونسي.
ويختم همامي بالإشارة إلى من أهم منجزات الثورة التونسية إبعاد الشعارات الحزبية أو الفئوية الضيقة. ويرى أن «هناك نوعاً من الوحدة الوطنية والانضباط في صفوف المعارضة لعدم طرح شعارات فئوية، فلا نسمع أن هذا كافر أو ظلامي، بل فقط الشعارات السياسية والاجتماعية. ونسعى إلى الحفاظ على هذا المناخ لأن الثورة لم تستكمل منجزاتها بعد، فقد سقط الديكتاتور ولم تسقط الديكتاتورية».



لا يخيفنا الإسلاميون

لدى حمة الهمامي رؤية لواقع الإسلاميين في تونس، ولا سيما حركة «النهضة»، التي يرى أنها من «مكونات الحياة السياسية في تونس، ولا يمكن القبول بإقصائها في أي حال من الأحوال». ويشير إلى أنه في ما يخص حركة «النهضة» فإنها «شهدت تطورات في المرحلة الأخيرة، وقد اشتركنا معاً في أمور تتعلق بالحريات، وخضنا معهم نقاشات حول محاور مفصلية تثير نقاشات على نطاق واسع في تونس، منها حرية المرأة وحرية العقيدة والفكر، وتوافقنا معهم على نصوص».
ويتابع «نحن اليسار لا تخيفنا حركة النهضة ولا أي حركة إسلامية، لأن اليسار له وجود راسخ في البلاد، وتاريخ تونس ليس كتاريخ أي بلد عربي آخر، فحتى الحركة الوطنية كانت حركة علمانية. نحن واعون أنهم يستخدمون الإسلامية فزاعة للمجتمع. ونحن نرى أن الإسلاميين حتى لو أرادوا فرض حكم إسلامي فسيتصدى لهم الشعب».